
دينا زكريا
وسط شوارع حي محرم بك الشعبي بمحافظة الإسكندرية، تقف فيلا تاريخية صامتة تنبض بالحياة من الداخل، تحتضن بين جدرانها أحد أعرق المتاحف الفنية في مصر والمنطقة العربية، بل ويمكن اعتباره أول متحف للفنون يُبنى خصيصًا لهذا الغرض في الشرق الأوسط. إنه متحف الفنون الجميلة الشهير باسم “متحف البلدية”، الذي تحوّل إلى منارة فنية وثقافية ساهمت على مدار عقود في تشكيل الوعي الجمالي لدى المواطن السكندري.
البداية من تبرع ألماني.. أول بذرة لفكرة المتحف
تعود قصة تأسيس المتحف إلى عام 1906، حين أهدى أحد عشاق الفنون الألمان، ويدعى “إدوارد فريد هايم”، مجموعة مكونة من 217 عملًا فنيًا لبلدية الإسكندرية، بشرط وحيد: أن تُنشئ البلدية متحفًا لعرض هذه المجموعة، وإلا ستُعاد الأعمال إلى وطنه الأم “ألمانيا” وتعرض في متحف “دوسلدورف”.
وبالفعل، استجابت بلدية الإسكندرية، وتم افتتاح مكان بسيط لعرض الأعمال، لكن الفكرة لم تكتمل آنذاك بالشكل المؤسسي الكامل، وبقيت هذه المجموعة الفنية نواة لما سيصبح لاحقًا منارة للفن التشكيلي في المدينة.
البارون السكندري الذي غيّر وجه المتحف
في عام 1935، قرر البارون “شارل دي منشه”، أحد الشخصيات البارزة في المجتمع السكندري آنذاك، أن يُهدي فيلته بحي محرم بك لتكون مكتبة ومتحفًا فنيًا عامًا. وقد بدأت البلدية بالفعل في تجهيز المبنى وتنظيم الأعمال الفنية داخله، إلا أن الحرب العالمية الثانية ضربت العالم، وكانت الإسكندرية من المدن التي تأثرت بشكل مباشر، حيث تعرض مبنى الفيلا لقصف جوي عام 1942، مما ألحق به أضرارًا بالغة.
ولحماية المقتنيات، اضطرت البلدية إلى تخزين الأعمال مؤقتًا، وبدأت منذ ذلك الحين خطوات جادة لتحويل الفيلا إلى متحف على مستوى رفيع، يليق بما تملكه المدينة من إرث فني وثقافي.
ميلاد المتحف الحديث على يد فؤاد عبد المجيد
في عام 1949، أسندت بلدية الإسكندرية مهمة تصميم المتحف إلى المعماري البارز فؤاد عبد المجيد، بتكليف من مدير عام البلدية آنذاك “حسين بك صبحي”. صُمم المتحف على أحدث الطرز المعمارية، وشمل صالات عرض متخصصة، مكتبة فنية، مركزًا ثقافيًا، وقاعات مخصصة للعروض السينمائية والندوات والحفلات الموسيقية، ما جعله مركزًا حضاريًا متكاملًا للفنون.
وفي 26 يوليو 1954، افتُتح المتحف رسميًا بحضور مجلس قيادة الثورة، ليواكب الاحتفال السنوي الثاني لثورة يوليو، وليكون هدية المدينة إلى جمهور الفن المصري والعالمي.
البينالي السكندري.. محطة دولية في قلب المتحف
لم تمر سوى سنة واحدة حتى أصبح المتحف محط أنظار الفنانين على مستوى حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث استضاف في 26 يوليو 1955 الدورة الأولى من بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط، الذي أصبح فيما بعد أحد أعرق الفعاليات الفنية الدولية، وثاني أقدم بينالي في العالم بعد بينالي فينيسيا وساوباولو.
ولا يزال المتحف يحتضن هذا الحدث العريق حتى يومنا هذا، مؤكّدًا مكانته الدولية واستمراريته كجسر ثقافي بين مصر والعالم.
مقتنيات نادرة ومجموعات فنية خالدة
يضم المتحف مجموعة متميزة من لوحات فناني المدرسة “الاستشراقية”، وهي لوحات تصوّر الحياة الشرقية بمنظور غربي، وتمثل إحدى المراحل المهمة في تطور الفن العالمي. وقد تبرع بهذه المجموعة النادرة السياسي والفنان المعروف “محمد محمود خليل”، من ضمن مجموعته الخاصة.
كما يضم المتحف مقتنيات فنية من فنانين مصريين، أرمن، وأجانب عاشوا في مصر، إلى جانب إهداءات فردية متفرقة، بالإضافة إلى أعمال اشترتها المحافظة من فنانين كبار بهدف إثراء المتحف فنيًا، ما يعكس اهتمام الدولة المصرية المتجدد بدعم الحركة التشكيلية.
دور ثقافي حي ومتجدد
لا يقتصر دور المتحف على كونه مكانًا لعرض اللوحات فقط، بل يُعد مؤسسة تعليمية وتربوية متكاملة، حيث ينظم ورش عمل فنية للأطفال والشباب، ويقيم معارض دائمة وموسمية لكبار الفنانين، ويُشرف على أنشطة التبادل الثقافي الدولي، ما يسهم في الارتقاء بالذوق الفني لدى المجتمع السكندري بصفة خاصة، والمجتمع المصري بصفة عامة.
كما يستضيف المتحف حفلات موسيقية وندوات فكرية وعروضًا سينمائية وفنية، ليكون قلبًا نابضًا بالإبداع داخل المدينة.
في زمن يتسارع فيه إيقاع الحياة وتتغير الأولويات، يظل متحف البلدية بحي محرم بك شاهدًا على عراقة الإسكندرية وتاريخها الثقافي الممتد. إنه أكثر من مجرد متحف.. إنه ذاكرة فنية حية، تؤكد أن للفن مكانًا لا يُنسى في حضارة مصر.