
دينا زكريا
بورفؤاد، المدينة الصغيرة التي ترقد بهدوء على الضفة الشرقية لقناة السويس، قد لا يعرفها كثيرون كما يعرفون شقيقتها الكبرى بورسعيد، لكنها بلا شك واحدة من أجمل المدن المصرية وأهدأها، تحتفظ بسحر خاص يميزها عن سائر المدن الساحلية في البلاد. جمالها لا يكمن فقط في موقعها الفريد أو طرازها المعماري الأوروبي، بل يتجلى بوضوح في مشهد استثنائي نادر، حيث تمتد جبال الملح البيضاء في الأفق كأنها قطع من الثلج القادم من شمال أوروبا.
منشأ ملكي على الطراز الفرنسي
تأسست مدينة بورفؤاد عام 1920 وسُمّيت تيمنًا بالملك فؤاد الأول. كانت المدينة في بدايتها مقرًا مخصصًا لسكن العاملين بشركة قناة السويس، ولهذا لم يُترك شيء للصدفة عند تخطيطها. استوحت المدينة تخطيطها العمراني من الطراز الفرنسي الكلاسيكي، فانتشرت الفيلات الأنيقة والمباني الحكومية ذات الطابع الأوروبي بين المساحات الخضراء، مما منحها مزيجًا بصريًا لا يتكرر كثيرًا في المدن المصرية.
وبالرغم من صغر مساحتها، فإن بورفؤاد تمتلك شخصية عمرانية متفردة، بشوارعها المنظمة، وهدوئها الواضح، ونظافتها اللافتة، وهو ما جعلها طوال سنوات طويلة مكانًا مثاليًا للباحثين عن حياة بلا صخب.
الملاحات… من كنوز الملح إلى كنوز الجمال
على الجانب الشرقي للمدينة، تمتد واحدة من أقدم وأكبر الملاحات في مصر، ملاحات بورفؤاد، التي أنشأتها الحملة الفرنسية في عام 1859، مستغلة الموقع المثالي بين البحر المتوسط وقناة السويس. وتبلغ مساحة هذه الملاحات نحو 6.8 مليون متر مربع، وهي مساحة هائلة تجعل منها مركزًا اقتصاديًا مهمًا لإنتاج الملح عالي النقاء.
لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن تتحول هذه المساحات البيضاء إلى مزار سياحي فريد، يختلف تمامًا عن الوجهات المعتادة، وتُصبح وجهة تستقطب آلاف الزوار أسبوعيًا.
جبال الملح… وجه آخر للجمال السياحي
ربما لا يتوقع الزائر لمصر أن يجد مشهدًا يشبه جبال الثلج الأوروبية، لكن هذا ما يحدث بالضبط في ملاحات بورفؤاد. فجبال الملح البيضاء التي تتلألأ تحت أشعة الشمس أصبحت تُعرف بـ”جبال الجليد المصرية”، وشكلت عنصر جذب فريد للسياح والمصورين.
وبحسب الإحصاءات المحلية، تستقبل المنطقة ما يقرب من 10 آلاف زائر أسبوعيًا، يأتون للاستمتاع بتجربة استثنائية تمزج بين الجمال الطبيعي والمغامرة والتوثيق البصري.
ومن أبرز الأنشطة التي يحرص الزوار على ممارستها هناك:
-
التقاط صور تذكارية بجوار الجبال المالحة ذات المظهر الثلجي.
-
تسلق التلال المالحة للحصول على إطلالات بانورامية مذهلة.
-
مشاهدة مراحل استخراج الملح والتعرف على كيفية تصنيعه وتعبئته.
من موقع صناعي إلى مزار ثقافي وسينمائي
تحولت الملاحات من منطقة إنتاج صناعي إلى مساحة ثقافية وسياحية متنوعة. فقد أصبحت موقعًا مفضلًا لجلسات التصوير الفوتوغرافي، سواء لعرسان يبحثون عن مشاهد غير تقليدية، أو لمصورين محترفين يسعون وراء لقطات نادرة في ضوء الشمس المنعكس على جبال الملح.
وفي بعض الأحيان، تُستخدم المنطقة كموقع تصوير سينمائي نظرًا لجمالها الفريد وملامحها غير المألوفة في البيئة المصرية، وهو ما يُعزز من مكانتها كوجهة سياحية متعددة الاستخدامات.
خطط تطوير متسارعة… سياحة مستدامة في الأفق
مع تزايد الإقبال على زيارة جبال الملح، بدأت الجهات المختصة في طرح خطط تطوير شاملة تستهدف تحويل المنطقة إلى مزار سياحي متكامل. وتشمل هذه الخطط:
-
إنشاء مناطق استراحة واستجمام.
-
إقامة مقاهٍ ومطاعم تطل مباشرة على الملاحات.
-
توفير خدمات إرشادية وتعريفية بالسياحة البيئية والصناعية.
مثل هذه الخطوات لا تهدف فقط إلى راحة الزوار، بل تسعى لتكريس بورفؤاد كوجهة سياحية ذات طابع خاص، تختلف عن الشواطئ التقليدية أو المعالم الأثرية المعتادة.
الطبيعة تهمس للزائر: هنا الراحة والسلام
بعيدًا عن الملاحات، تواصل بورفؤاد سرد حكايتها الهادئة. فبفضل موقعها الاستراتيجي عند المدخل الشمالي لقناة السويس، توفر المدينة مشهدًا بحريًا استثنائيًا، حيث يمكن للزائر أن يشاهد السفن العملاقة وهي تعبر القناة في خلفية يومية لا تملّ.
وتُعرف المدينة أيضًا بشواطئها النقية ذات الرمال الذهبية، والتي تُعد مثالية لمحبي السباحة والهدوء. كما تنتشر الحدائق العامة بين الأحياء، وتشكّل متنفسًا طبيعيًا للعائلات.
أما المقاهي والمطاعم المنتشرة على طول القناة، فتقدم تجربة طعام مميزة لا تُضاهى، مع مشهد مستمر لحركة السفن العابرة، في مزيج بين الحداثة والتراث البحري المصري.
المعدية… رمز التواصل بين الضفتين
لا يمكن الحديث عن بورفؤاد دون الإشارة إلى “المعدية”، الوسيلة التاريخية التي تربط المدينة ببورسعيد. ورغم تطور وسائل النقل، لا تزال المعدية تحتفظ برمزيتها لدى السكان والزوار، حيث تشكل جزءًا من تجربة الوصول إلى المدينة وتُضفي بعدًا خاصًا على الرحلة.
بورفؤاد من الأعلى… مدينة ترسم ملامح المستقبل
صور المدينة من الأعلى تكشف عن مشهد بديع؛ تخطيط هندسي متناسق، مساحات خضراء، فيلات أنيقة، وساحل هادئ. هذه المدينة الصغيرة تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت، وتُعيد تعريف مفهوم السياحة الساحلية في مصر، بعيدًا عن الزحام والتكرار.
ومع تعاظم الاهتمام الإعلامي والتخطيط السياحي، تبدو بورفؤاد مرشحة بقوة لتكون واحدة من أبرز الوجهات السياحية في مصر خلال السنوات القليلة المقبلة، ليس فقط بسبب ملاحاتها الفريدة، بل لأنها تقدم تجربة متكاملة تمزج بين الهدوء، والجمال، والخصوصية.
