
في قلب مدينة المحلة الكبرى، حيث تتشابك الأزقة الضيقة وتفوح من جدرانها رائحة التاريخ، يختبئ أحد أقدم وأجمل الكنوز المعمارية في دلتا النيل، “حمام المتولي”، ذلك الحمام الشعبي العتيق الذي تجاوز عمره ثلاثة قرون ونيف، ليظل شاهدًا حيًا على زمن كانت فيه الحمامات العامة مراكز نابضة بالحياة، ومتنفسًا اجتماعيًا، وملاذًا للراحة الجسدية والنفسية.
منذ أكثر من 336 عامًا، وتحديدًا في عام 1688م (1100هـ)، أمر الأمير جاويش بإنشاء هذا الصرح الفريد في الجهة المقابلة لمسجد الطريني الكبير، الذي يرجع تاريخه إلى العصر المملوكي، والذي شيّده العالم أحمد بن علي بن يوسف المجلي، المعروف بـ”الطريني”. ومع مرور السنين، اكتسب الحمام اسمه الشعبي بين أبناء المدينة: “حمام الشفاء”، لما عُرف عنه من قدرته على إراحة الأجساد المرهقة، وتنشيط الدورة الدموية، وإزالة آلام المفاصل، فضلًا عن أجوائه الروحانية والاجتماعية التي تجمع بين الناس في جو من الألفة.
أجواء من الزمن الجميل
عند دخولك حمام المتولي، تشعر وكأنك تعبر بوابة زمنية تعيدك إلى عصور مضت. رائحة البخار الممزوجة بالصابون البلدي، والقباب المزخرفة، والجدران الحجرية الدافئة، كلها تحكي قصة مدينة بأكملها.
الحمام يضم عدة أقسام تقليدية حافظت على تصميمها الأصلي:
-
غرفة المَغطس: حوض كبير مملوء بالمياه الدافئة، يتم تسخينه بواسطة غلاية خارجية تعمل بالحطب أو الفحم، وهو قلب الحمام النابض.
-
غرفة البخار: حيث يملأ الضباب الساخن المكان، مما يساعد على فتح المسام وتنشيط الدورة الدموية.
-
المنصة الرخامية: سداسية الشكل، مخصصة لجلسات التدليك (الكيّسة)، وهي من الطقوس المميزة التي تجعل الزائر يشعر بخفة جسده بعد الانتهاء.
-
الدُش العلوي: للاستحمام السريع بعد الجلسة.
-
غرفة الاستراحة: حيث يجلس الزبائن لاستعادة النشاط، مع شرب الشاي أو الأعشاب الساخنة.
دور اجتماعي وثقافي
الحمامات الشعبية في مصر لم تكن يومًا مجرد أماكن للنظافة الشخصية، بل كانت مسارح للحياة الاجتماعية. وحمام المتولي لم يكن استثناءً. لعقود طويلة، كان المكان يجمع الناس من مختلف الأعمار والطبقات، يتبادلون الأحاديث، ويتشاركون الأخبار، ويقيمون الطقوس الاحتفالية.
أشهر هذه الطقوس كانت ليلة الحناء للعرسان، حيث يأتي العريس أو العروس برفقة الأصدقاء والأقارب، يتزين المكان بالبخور والأغاني الشعبية، وتُقام جلسات التدليك والتبخير استعدادًا ليوم الزفاف. وكان الحمام كذلك وجهة مفضلة لكبار السن، طلبًا للراحة من آلام المفاصل والبرد القارس في الشتاء.
رمزية المكان في السينما المصرية
لا يمكن الحديث عن الحمامات الشعبية دون الإشارة إلى حضورها في الذاكرة السينمائية المصرية. فمشاهد الحمامات ظهرت في أفلام الأبيض والأسود، لتجسد الحياة الشعبية، وتعرض المواقف الكوميدية أو الدرامية التي تحدث بين جدرانها. وحمام المتولي، بتصميمه التقليدي، يكاد يكون نسخة حيّة من تلك المشاهد التي رأيناها في أفلام مثل “حمام الملاطيلي”، حتى وإن لم يكن موقع تصوير فعلي.
رحلة عبر التاريخ
تأسس الحمام في زمن كانت فيه الحمامات العامة جزءًا من البنية التحتية للمدن الكبرى، على غرار ما كان موجودًا في القاهرة ودمشق وإسطنبول. في تلك الحقبة، كانت هذه المنشآت تدار بعناية فائقة، وتخضع لصيانة دورية، نظرًا لأهميتها الصحية والاجتماعية.
ومع مرور الزمن، صمد حمام المتولي أمام عوامل التعرية والتغيرات الاجتماعية، رغم قلة الموارد وغياب الترميم الجاد. واليوم، يمكن للزائر أن يلمس آثار الزمن على جدرانه، لكن ذلك لا يزيده إلا جمالًا وأصالة.
بين الأوقاف والآثار.. مصير معلق
ورغم قيمته التاريخية والمعمارية، يعاني الحمام من إهمال واضح. فملكيته تتأرجح بين وزارة الأوقاف ووزارة الآثار، مما جعل مسألة ترميمه وإعادة إحيائه مسألة معقدة إداريًا. وعلى الرغم من أن المبنى مؤهل ليكون مزارًا سياحيًا وتراثيًا يدر دخلًا كبيرًا على المدينة، إلا أنه لم يحظَ بأي مشروع تطوير شامل منذ عقود.
الزوار المحليون ما زالوا يقصدونه بأسعار رمزية، لكن غياب التحديث جعله أقل جذبًا للأجيال الجديدة التي اعتادت على المنتجعات الصحية الحديثة ومراكز السبا الفاخرة.
شهادات من قلب المكان
يقول عم مصطفى، أحد أقدم العاملين بالحمام:
“أنا شغال هنا من أكتر من 40 سنة، وشوفت أجيال وأجيال بتيجي وتروح. زمان كان الحمام بيشتغل طول الأسبوع، والناس كانت بتيجي من القرى المجاورة. دلوقتي الإقبال قل، لكن لسه فيه ناس بتحب الجو التراثي ده.”
وتحكي أم حسن، التي جاءت برفقة ابنتها قبل زفافها:
“الحمام الشعبي ده ليه بركة.. إحنا اتربينا عليه، ودي حاجة ما تتعوضش. حتى لو في مراكز حديثة، مش هتحسي بنفس الدفا والروح اللي هنا.”
فرصة سياحية ضائعة
يرى خبراء التراث أن تطوير الحمام لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة، بل إلى خطة واضحة تشمل:
-
ترميم القباب والجدران باستخدام مواد تقليدية.
-
تحديث أنظمة التدفئة والمياه مع الحفاظ على الطابع الأثري.
-
إدراج الحمام ضمن خريطة السياحة الداخلية في الغربية.
-
الترويج له كجزء من “مسار الحمامات الشعبية” في مصر.
ويؤكد هؤلاء أن مثل هذه المشاريع يمكن أن تخلق فرص عمل، وتنعش الأسواق المحيطة، وتعيد إحياء الحرف المرتبطة بالحمامات مثل صناعة الصابون البلدي والليفة اليدوية.
حكاية مدينة.. وحلم إنقاذ
حمام المتولي ليس مجرد مبنى حجري، بل هو ذاكرة حيّة لمدينة المحلة الكبرى، وقطعة من تاريخ مصر الاجتماعي والمعماري. وفي كل بلاطة رخامية، وكل قبة متهالكة، تختبئ حكايات عن أفراح وأحزان وأيام مضت.
إنقاذ هذا الصرح يتطلب إرادة حقيقية من الجهات المعنية، وشراكة بين الدولة والمجتمع المحلي، حتى يظل البخار يتصاعد من قلب الحمام، ويحمل معه عبق الماضي إلى الأجيال القادمة.