
مدخل تاريخي: زمن العروبة المشتعلة
لم تكن الأيام التي أعقبت إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956 أيامًا عادية في تاريخ الأمة العربية. فبينما كانت القوى الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا، تترقب الفرصة للانقضاض على مصر، كانت العواصم العربية تغلي بمشاعر الفخر والاعتزاز. وفي قلب هذا الغليان، برزت العاصمة السورية دمشق، ومعها حلب، لتقدما واحدة من أضخم صور التضامن الشعبي العربي في العصر الحديث.
في 14 أغسطس 1956، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع على قرار التأميم، شهدت سوريا حدثًا استثنائيًا، حيث احتشد أكثر من مائة ألف متظاهر في الملعب الرئيسي لبلدية دمشق، في مشهد لم تعرفه البلاد منذ عقود. الهتافات دوّت من الحناجر، والأعلام ارتفعت، واللافتات كتب عليها شعارات الدعم والتأييد لمصر، بينما كانت إذاعة “صوت العرب” تنقل وقائع المظاهرة لحظة بلحظة، فتتحول دمشق إلى منبر عربي موحّد خلف القاهرة.
شهادة السفير محمود رياض: دبلوماسية الميدان
يستعيد السفير محمود رياض، أحد أبرز الأسماء في تاريخ الدبلوماسية المصرية، ووزير الخارجية المصري لاحقًا، ثم أمين عام جامعة الدول العربية في السبعينيات، تلك الأيام بحماسة في الجزء الثاني من مذكراته “الأمن القومي العربي بين الإنجاز والفشل”.
كان رياض يشغل منصب سفير مصر في سوريا آنذاك، ويصف كيف تحولت السفارة المصرية في دمشق بعد إعلان قرار التأميم إلى خلية نحل لا تهدأ. يقول:
“في اليوم التالي لإعلان قرار التأميم، لم ينقطع الزوار عن السفارة صباحًا، ولا عن منزلي مساءً. كان الجميع يتغنى بشجاعة عبد الناصر كبطل يجسد آمال الأمة العربية، وقد تأكدت زعامته خارج حدود مصر وفي عمق العالم العربي.”
ويروي رياض أنه ومع تزايد المؤشرات على استعداد بريطاني عسكري في المنطقة، بادر بالتواصل مع قادة سوريين لتنظيم تحرك شعبي يرسل رسالة واضحة إلى لندن وباريس. وكان بين هؤلاء أكرم الحوراني، الزعيم السياسي البارز، الذي أبدى حماسة كبيرة للفكرة.
تشكيل لجنة وطنية لنصرة مصر
لم يكن التحرك عفويًا فقط، بل منظمًا أيضًا. تشكّلت لجنة سورية واسعة ضمّت رموزًا من مختلف التيارات السياسية، من بينهم:
-
معروف الدواليبي (رئيس وزراء سوريا السابق)
-
أكرم الحوراني وعلي بوظو عن حزب الشعب
-
ظافر القاسمي، فاخر الكيالي، محمد المبارك عن الحزب الوطني
-
خالد بكداش عن الحزب الشيوعي
هذه اللجنة لم تكتفِ بدعوة السوريين للتظاهر، بل وجهت رسائل وبرقيات إلى جميع الشعوب العربية، وإلى الأمم المتحدة، تحث فيها على الوقوف إلى جانب مصر في مواجهة التهديد الاستعماري.
التحضير ليوم 14 أغسطس: ساعة الحشد
يذكر الدكتور عبد الله فوزي الجنايني في كتابه “ثورة يوليو والمشرق العربي.. 1952-1956” أن دمشق وحلب شهدتا أضخم المظاهرات المؤيدة لمصر في ذلك اليوم. فقد اجتمعت الأحزاب والهيئات السياسية والدينية في 10 أغسطس، واتفقوا على إنشاء “اللجنة السورية لنصرة مصر” برئاسة السياسي البارز خالد العظم، وضمّت ممثلين عن أحزاب: البعث العربي الاشتراكي، الحزب الوطني، حزب الشعب، الحزب الشيوعي، وحركة التحرير العربي.
وزعت اللجنة بيانًا جماهيريًا واسع النطاق، حددت فيه موعد المظاهرة الكبرى في 14 أغسطس، ودعت إلى إضراب جزئي يبدأ من الرابعة عصرًا لتسهيل مشاركة أكبر عدد من السوريين. ونجحت الدعوة، إذ شهد ذلك اليوم مشاركة مئات الآلاف من مختلف الطبقات والفئات.
يوم المظاهرة: “هذا يوم العروبة”
في الملعب البلدي بدمشق، ارتفعت الهتافات:
“تحيا مصر”، “يحيا عبد الناصر”، “تسقط الاستعمار”.
كانت الأعلام السورية والمصرية ترفرف جنبًا إلى جنب، فيما علت مكبرات الصوت بكلمات قادة الأحزاب والشخصيات الوطنية.
ألقى خالد العظم خطابًا مؤثرًا قال فيه:
“أيها المواطنون، هذا يوم من أيام العرب، إنه يوم مصر، إنه يوم العروبة لأن مصر هي قلب العروبة ورأسها. نحن لا نجتمع اليوم لنرد تحية بمثلها، ولا لنفي دينًا في أعناقنا. نحن لا ننسى نصرة مصر لنا أيام الثورة السورية، ولن ننسى مواقفها إبان العدوان الفرنسي. إن الاستعمار عندما يتآمر على استقلال مصر، فهو يتآمر على استقلال جميع الشعوب العربية.”
وطالب العظم الحكومات العربية بوقف ضخ النفط إلى الغرب إذا هاجمت بريطانيا أو فرنسا مصر، ومصادرة أموال رعايا تلك الدول.
حلب تردد الصدى
لم تكن دمشق وحدها في قلب المشهد. ففي حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، خرجت مسيرات ضخمة تجوب الشوارع، رافعة صور عبد الناصر والأعلام المصرية. كان المشهد مزيجًا من الحماسة الشعبية والوحدة الوطنية، إذ شاركت النقابات، والهيئات الدينية، والمثقفون، والطلاب، وحتى الفلاحون الذين جاءوا من القرى المجاورة.
تضامن بلا حدود: من البرقيات إلى التطوع
في اليوم التالي، تحولت السفارة المصرية في دمشق إلى مقصد للوفود الشعبية، حيث توافدت النقابات المهنية، العمال، المزارعون، والطلاب لتسجيل دعمهم. وانهالت البرقيات من:
-
نقابة عمال الخياطة
-
عمال خراطة المعادن
-
الجزارين والحلاقين
-
عمال الميكانيكا
-
الحذّاء والنعل
-
المعلمين والمحامين
بل وصلت برقيات من أندية ثقافية وأدبية، ومن جمعيات نسائية، ومن فلاحين من أقصى القرى السورية.
الأكثر إثارة أن الحماس الشعبي وصل إلى درجة التطوع العسكري. فقد بلغ عدد طلبات التطوع للدفاع عن قناة السويس حتى 15 أغسطس أكثر من عشرين ألف طلب، بينهم نحو مائتي امرأة سجّلن أسماءهن في سجلات الاتحاد النسائي السوري.
فتوى “الجهاد المقدس”
في خطوة تعكس المزاج العام في سوريا آنذاك، أصدر الشيخ أبو اليسر عابدين، مفتي الجمهورية، فتوى بإعلان “الجهاد المقدس” دفاعًا عن قناة السويس ضد أي عدوان استعماري. هذه الفتوى منحت البعد الديني للموقف الشعبي والسياسي، وزادت من زخم الحشد الجماهيري.
البعد العربي للمشهد السوري
لم تكن مظاهرات سوريا مجرد حدث عابر، بل كانت جزءًا من موجة عربية عارمة. في لبنان، الأردن، العراق، واليمن، شهدت الشوارع مسيرات تأييد لمصر. لكن ما ميّز سوريا هو حجم المشاركة والتنظيم، ووضوح الرسائل السياسية التي استهدفت مباشرة العواصم الغربية.
لقد أدركت لندن وباريس من خلال مشهد دمشق أن أي هجوم على مصر لن يمر دون رد عربي، وأن روح “القومية العربية” التي كان عبد الناصر يجسدها، أصبحت واقعًا في الشارع.
إرث 14 أغسطس 1956
اليوم، وبعد ما يقارب سبعة عقود على تلك المظاهرة، تبقى صور دمشق وحلب في ذلك اليوم محفورة في الذاكرة العربية. كانت لحظة نادرة اتحد فيها الشارع العربي حول قضية واحدة، وشعر فيها المواطن في دمشق أو حلب أنه يدافع عن بيته كما يدافع عن مصر.
لقد كانت 14 أغسطس 1956 أكثر من مجرد يوم تضامن، كانت إعلانًا أن مشروع عبد الناصر في الوحدة والتحرر يجد صداه الحقيقي في الشارع العربي، وأن القومية العربية في تلك الحقبة لم تكن مجرد شعارات، بل حركة جماهيرية قادرة على أن تحشد مئات الآلاف خلال أيام قليلة.