
كتب / هاري يوسف
وسط أروقة الجريدة التي كانت يومًا ما تُعتبر حصنًا لحرية الصحافة، باتت الآن ساحة لمعركة غير معلنة بين الصحفيين المنتمين لتيارات مختلفة. بعد فوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية، وجد الصحافيون المنتمون لتيار الإخوان المسلمين الفرصة سانحة لبسط نفوذهم داخل الجريدة، بينما وقف الصحفيون المستقلون والليبراليون في مواجهة ذلك النفوذ المتزايد.
كان راجح، أحد الصحفيين القدامى في الجريدة، ينظر إلى التغيرات الحاصلة بقلق بالغ. على الرغم من كونه لم يكن معاديًا بشكل علني لتيار الإخوان، إلا أنه كان يراقب محاولاتهم للسيطرة على الخط التحريري للجريدة بتمعن. عماد، الصحفي الشاب المندفع، كان من أبرز وجوه التيار الإسلامي داخل الصحيفة، وكان يرى في هذه اللحظة فرصة ذهبية لتحقيق ما كان يعتقد أنه “تصحيح للمسار الإعلامي”.
“الإعلام طوال السنوات الماضية كان أداة بيد الدولة العميقة، والآن جاء وقت التغيير، علينا أن نكون جزءًا من هذه الصحوة، وأن نحمل راية الإصلاح الصحفي”، هكذا كان يقول عماد في إحدى الاجتماعات المغلقة التي جمعته بزملائه من الصحفيين الإسلاميين داخل الجريدة.
أما جلال، الصحفي المستقل ذو المواقف الحادة، فلم يكن يخفي امتعاضه مما يراه محاولات لفرض الوصاية على العمل الصحفي. “الصحافة يجب أن تكون مستقلة، لا تُدار من مكتب الرئيس ولا من مكتب المرشد. ما يحدث الآن ليس إلا استبدادًا جديدًا يُلبس ثوب الإصلاح”، قالها بصوت عالٍ ذات مساء، بينما كان يجلس مع بعض الزملاء في المقهى القريب من مقر الجريدة.
بمرور الأشهر، بدأ الصراع يزداد وضوحًا. بعض المقالات المعارضة لحكم الإخوان المسلمين كانت تُمنع من النشر، بينما تحظى المقالات المؤيدة بتغطية واسعة. بدأ البعض يتحدث عن قوائم سوداء للصحفيين الذين يرفضون التماهي مع التوجه الجديد.
في أحد الأيام، دخل راجح إلى مكتبه ليجد على طاولته مذكرة من رئيس التحرير تفيد بنقل أحد زملائه المعروفين بمواقفه المعارضة إلى قسم أقل تأثيرًا. لم يكن الأمر مجرد قرار إداري، بل كان رسالة واضحة لكل من تسول له نفسه معارضة الخط التحريري الجديد.
بدأت المواجهات تأخذ أشكالًا أكثر حدة، ففي إحدى الاجتماعات التحريرية، وقف جلال مخاطبًا رئيس التحرير بصوت مرتفع: “نحن لا نعمل في صحيفة ناطقة باسم الرئاسة، نحن صحفيون ولسنا موظفين في السلطة. إن كان المطلوب منا أن نكون أبواقًا، فعليكم أن تخبرونا بوضوح حتى نعرف إلى أين نحن ذاهبون”.
تدخل عماد، الذي كان يجلس في الصف الأول، قائلًا: “جلال، كفى مزايدات! لا أحد يمنعك من الكتابة، لكننا فقط نحاول إعادة التوازن إلى الجريدة بعد أن كانت منبرًا للهجوم على التيار الإسلامي طوال السنوات الماضية. هل تعتقد أن الحرية تعني فقط أن تتحدث أنت ومن يوافقك الرأي؟”
نظر جلال إليه بغضب، ثم قال: “الحرية تعني أن أكتب ما أراه صحيحًا، لا ما يُملى عليّ. وحين يُصبح الصحفي خائفًا من قلمه، فاعلم أن الصحافة قد ماتت”.
مرت الأيام، وتصاعد الغضب الشعبي في الشارع. بدأ الناس يخرجون في مظاهرات معارضة لحكم الإخوان، وكانت الصحف المستقلة والمواقع الإخبارية التي لم تخضع للرقابة تنقل نبض الشارع، بينما كانت الصحف القريبة من السلطة تحاول تبرير المواقف وتقديم رواية أخرى للأحداث.
في ليلة 29 يونيو، اجتمع راجح وجلال وبعض زملائهم في أحد المقاهي القريبة من ميدان التحرير. كانت أصوات الهتافات تتردد في الخلفية، والناس يتوافدون إلى الشوارع استعدادًا ليوم 30 يونيو، اليوم الذي سيغير مسار الأحداث.
أخرج جلال هاتفه ليراجع بعض التقارير الإخبارية، ثم التفت إلى راجح قائلًا: “غدًا سيكون يومًا مفصليًا. إن سقط مرسي، ستنقلب الموازين مجددًا، وسنرى وجوهًا كانت تدافع عنه اليوم، تنقلب عليه غدًا”.
أومأ راجح برأسه موافقًا، لكنه لم يقل شيئًا. كان يعلم أن الصراع لم يكن فقط في الشوارع، بل كان أيضًا بين زملاء المهنة. وما إن ينتهي يوم الغد، حتى تتغير المواقف مرة أخرى، وتبدأ معركة جديدة داخل أروقة صاحبة الجلالة.