
دينا زكريا
منذ قرون، ظلت مصر تروي أرضها من نهر النيل، مصدر الحياة والخير. ومنذ عهد محمد علي باشا، بدأ التفكير الاستراتيجي في التحكم في مياه النهر، وإنشاء القناطر والمنشآت المائية لتحسين الزراعة ومواجهة الزيادة السكانية، لتصبح مصر نموذجًا عالميًا في إدارة الموارد المائية.
قناطر الدلتا.. قلب منظومة التحكم في المياه العذبة
تُمثل قناطر الدلتا في القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية أحد أهم المفاصل المائية في مصر، إذ تتحكم في أكثر من 70% من المياه العذبة التي تصل إلى الدلتا. تلك المنطقة الحيوية، بما تضمه من منشآت قديمة وحديثة، تُعد العمود الفقري للري في شمال مصر.
ويوضح المهندس معتز محمد، رئيس قلم المياه بري قناطر الدلتا، أن هذه القناطر ليست فقط مشروعات بنية تحتية مائية، بل هي مشروع وطني بدأ منذ قرون، تحديدًا في عهد محمد علي باشا، الذي سعى لتحويل نظام الري القديم إلى نظام مستدام يُتيح توافر المياه طوال العام.
محمد علي باشا.. البداية من فكرة وتطبيق عبقري
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت مصر تعاني من محدودية الرقعة الزراعية، في وقت تزايدت فيه أعداد السكان. لذلك، تبنّى محمد علي فكرة تطوير نظام الري، حيث انتقل من طريقة الري بالحواجز (الأحواض) إلى نظام القناطر الثابتة، الذي يتيح التحكم المستمر في تدفق المياه.
بدأ تنفيذ المشروع العملاق ببناء قناطر دمياط عام 1820، واستغرقت عملية التشييد حوالي 20 عامًا حتى تم الانتهاء منها في عام 1840. تلا ذلك بناء قناطر رشيد، ثم توالت المشروعات المائية في عهد الأسرة العلوية، مثل قناطر فم الرياح التوفيقي والمنوفي والناصري والبحيري، لتغطي فروع النيل وشرايين الترع الكبرى في الدلتا.
القناطر.. تحكم كامل في كل نقطة ماء
في الوقت الحالي، تضم قناطر الدلتا أكثر من 12 منشأة مائية ضخمة تُدار من خلال الإدارة العامة لقناطر الدلتا. من أبرز هذه المنشآت:
-
فم ترعة الإسماعيلية: تتحكم في المياه المتجهة نحو مدن القناة.
-
ترعة الشرقاوية: تغذي مدينة بنها.
-
طرمبات أبو المنجا: محطة ضخ تعمل على تغذية ترع بنها بالمياه.
-
قناطر الرياح التوفيقي والمنوفي والبحيري والناصري: تتحكم في توزيع المياه على محافظات الدلتا الكبرى، مثل الغربية والدقهلية وكفر الشيخ والإسكندرية.
هذه القناطر ليست مجرد سدود، بل أنظمة هندسية متكاملة تضم بوابات متعددة، بعضها يعمل كهربائيًا والآخر ميكانيكيًا، لضبط تدفقات المياه بدقة عالية وفقًا للاحتياجات الزراعية والموسمية.
التوسع الحديث.. قناطر جديدة لتلبية متطلبات الزراعة والتغير المناخي
مع تزايد الضغط على الموارد المائية وتوسع الرقعة الزراعية، لم تعد القناطر القديمة قادرة على تلبية كافة المتطلبات الحديثة، ما دفع وزارة الري لتشييد قناطر جديدة أكثر تطورًا، مثل:
-
قناطر دمياط الجديدة (1930)
-
قناطر رشيد الجديدة
-
قناطر الرياح التوفيقي الجديدة (2010)
-
قناطر الرياح المنوفي الجديدة (2008)
كل منشأة جديدة صُممت لتتوافق مع حجم التصرفات المائية المطلوبة، بما يواكب نمو المساحات الزراعية، والتغيرات المناخية التي تفرض تحديات إضافية في إدارة المياه.
الإدارة اليومية.. توزيع دقيق ومراقبة صارمة
تشرف الإدارة العامة لقناطر الدلتا على التشغيل والصيانة اليومية، وتضم فرقًا متخصصة أبرزها قسم توزيع المياه، المسؤول عن متابعة التصرفات المائية وتوزيعها على القناطر المختلفة.
يقول المهندس معتز إن هناك فرقًا تقوم بعمليات قياس يومية دقيقة للتصرفات المائية في كل مجرى مائي، حيث تُسجل هذه البيانات، ويُرجع بعضها إلى فترات ما قبل إنشاء السد العالي. كما تمتلك كل قنطرة جداول معايرة خاصة بها وفقًا لطبيعتها الإنشائية، لضمان توزيع المياه بعدالة ودقة بين المناطق الزراعية.
حدائق القناطر.. من رحم المنشآت المائية إلى روضة خضراء
لم يكتفِ محمد علي باشا بإنشاء القناطر لضبط المياه فقط، بل قرر أيضًا استغلال الأراضي المحيطة بالقناطر، فأسس حدائق القناطر الخيرية، التي أصبحت من أشهر المتنزهات في مصر، وتضم زهورًا ونباتات نادرة، إلى جانب أشجار تاريخية مثل الكافور والتين البنغالي، التي تجاوز عمرها 150 عامًا.
تفاصيل هندسية دقيقة لكل منشأة
تتفاوت القناطر في عدد البوابات والعيون وآلية التشغيل، ومن أبرز ما ذكره المهندس معتز:
-
ترعة الإسماعيلية: 4 بوابات كهربائية.
-
الشرقاوية: 5 بوابات ميكانيكية على طراز “فهمي حنين”.
-
قناطر الرياح التوفيقي: 6 بوابات.
-
قناطر فرع دمياط: 34 بوابة ميكانيكية تُدار بونيشين شرقي وغربي.
-
قناطر فرع رشيد: 46 عين.
-
قناطر الرياح البحيري والمنوفي والناصري: تتراوح بين 6 إلى 9 بوابات.
كل بوابة تتحكم في كمية مياه تمر من خلالها، ويتم ضبطها يوميًا حسب الحاجة وكمية المياه المتاحة، لضمان تغذية الترع والأراضي الزراعية وفق احتياجاتها دون هدر.
منشآت خالدة وإرث لا يُنسى
إن منظومة القناطر المصرية ليست مجرد تاريخ مضى، بل هي ركيزة أساسية في استمرار حياة الزراعة المصرية. فعلى مدى قرنين، لعبت هذه المنشآت دورًا مفصليًا في حفظ الأمن الغذائي، وإدارة واحدة من أعقد شبكات توزيع المياه في العالم.
ورغم التحديات، من ندرة مائية أو تغيرات مناخية، تواصل مصر تطويع نهر النيل لتلبية حاجات شعبها، تمامًا كما بدأ محمد علي ذات يوم بخطوة جريئة نحو الاستدامة.