كتاب و أراء

” شرف المهنة ” لهاري يوسف الفصل الاول

كتب / هاري يوسف

هاري يوسف

في أحد أروقة الجريدة الكبرى، حيث تصطف المكاتب الخشبية العتيقة، ويعلو صوت النقر على لوحات المفاتيح القديمة، كان راجح يراقب المشهد بعين الصحفي المتمرس. رجلٌ تجاوز الأربعين بقليل، يحمل في ملامحه علامات السنين التي قضاها بين أعمدة الأخبار وصفحات المقالات. كان مكتبه مليئًا بالقصاصات، عناوين الصحف، وصور رؤساء التحرير الذين تعاقبوا على قيادة المؤسسة.

في الجهة المقابلة، كان عماد، الشاب المتحمس ذو الخلفية الإسلامية، يجلس مستغرقًا في كتابة مقال عن “الشرعية والمشروعية”، متحدثًا عن الثورة، الصندوق، والديمقراطية الوليدة. نظر إلى راجح بطرف عينه، كأنه ينتظر تعليقًا، لكن الأخير اكتفى بابتسامة غامضة.

“هل تقرأ مسودتي؟” سأل عماد أخيرًا.

أخذ راجح نفسًا عميقًا وقال: “أقرأها دون أن أنظر إليها… أعرف تمامًا كيف تفكر، وكيف ستبدأ وكيف ستنتهي.”

“وهل هذا شيء سيئ؟” استفسر عماد.

“ليس سيئًا، لكنه متوقع، وهذا أخطر ما يمكن أن يقع فيه الصحفي.” رد راجح بينما أشعل سيجارته بعناية.

2

على بعد خطوات منهم، كان جلال، الصحفي المستقل الذي لا ينتمي لأي تيار، ينظر إليهما بنظرة استهزاء. رجل يكره الأدلجة، يرفض الاصطفاف، ويمقت فكرة أن تتحول الصحافة إلى أداة تبرير لطرف دون آخر.

“متى ستتوقفون عن كتابة ما يريد القارئ سماعه وتبدؤون بكتابة ما يجب أن يعرفه؟” قال جلال بصوت هادئ لكنه قاطع.

ابتسم عماد ساخرًا: “ومن يحدد ذلك؟ أنت؟ الصحفي المحايد؟ لا أحد محايد يا جلال، حتى أنت لديك أجندة، وإن كنت تخفيها خلف شعارات الاستقلالية.”

ضحك راجح وقال: “كلام في الصميم، لكن المشكلة ليست هنا… المشكلة أن الحرية أصبحت مجرد شعار يُستخدم لتصفية الحسابات.”

3

عندما فاز مرسي بالرئاسة، تغيرت ملامح الصحافة تمامًا. بعض الصحف انحازت له تمامًا، وبعضها الآخر انقلب عليه منذ اليوم الأول. أما هنا، في الجريدة الكبرى، فقد كان المشهد أكثر تعقيدًا. تحالفات سرية، مقالات تمرر من تحت الطاولة، اجتماعات مغلقة مع رؤساء التحرير، وخطوط حمراء ترسم كل يوم.

كان عماد يجد نفسه مدافعًا عن قرارات السلطة الجديدة، يبرر خطواتهم، ويهاجم معارضيهم، بينما راجح يراقب بصمت، ينتظر اللحظة التي ينهار فيها كل شيء، فقد رأى هذا المشهد يتكرر من قبل.

أما جلال، فقد وجد نفسه بين المطرقة والسندان. لا يستطيع تأييد سلطة تُخطئ، ولا يستطيع الوقوف في صف المعارضة التي لا تملك رؤية واضحة. كانت المساحة تضيق عليه يومًا بعد يوم، حتى بات يشعر أنه محاصر داخل المهنة التي أحبها.

4

في أحد الاجتماعات المغلقة، كان رئيس التحرير يوزع التعليمات الجديدة:

“نريد أن نحافظ على توازن دقيق. لا نريد أن نبدو وكأننا بوق للسلطة، لكن في الوقت ذاته، لا نريد أن نُتهم بأننا ضد الدولة. مقالاتكم يجب أن تكون ذكية، محسوبة، لا تزيد الطين بلة.”

نظر راجح إلى عماد، الذي كان يومئ برأسه موافقًا، بينما جلال اكتفى بإطلاق ضحكة خفيفة.

“شيء مضحك؟” سأله رئيس التحرير بحدة.

هز جلال كتفيه وقال: “ليس مضحكًا… فقط مألوف جدًا. سمعت هذه الجملة من كل رئيس تحرير مر عليّ في حياتي.”

كان الجو مشحونًا، فالجميع يعرف أن هناك تغييرات قادمة، وأن الصحافة ستصبح أكثر انقسامًا. وبينما كان البعض يسعى إلى تثبيت موقعه، كان آخرون يشعرون أن وقت الرحيل قد حان.

5

مع اقتراب الثلاثين من يونيو، كان التوتر في الصحيفة يصل إلى ذروته. أخبار المظاهرات تتدفق، مقالات تصدر لتأييد الرئيس وأخرى تطالب برحيله، والانقسامات بين الصحفيين لم تعد مجرد نقاشات بل أصبحت معارك حقيقية.

في إحدى الأمسيات، دخل عماد إلى غرفة الأخبار ليجد جلال ممسكًا بمقال مطبوع.

“ما هذا؟” سأله.

“مقال سأرسله للنشر غدًا… عنوانه: يوم واحد في السلطة أقوى من سنوات في المعارضة.”

تأمل عماد العنوان ثم رفع حاجبيه: “هل بدأت تكتب ضدهم؟”

ابتسم جلال وقال: “أنا فقط أكتب ما أراه… اليوم أنت تدافع عنهم، وغدًا قد تجد نفسك تدافع عن غيرهم. الصحافة ليست ولاء، بل هي شهادة حق.”

نظر عماد إليه طويلًا دون أن يرد، بينما راجح راقب المشهد وهو يهز رأسه ببطء، وكأنه يعرف كيف سينتهي كل هذا… فقد رأى هذه اللعبة من قبل، ويعلم أن الصحافة دائمًا ما تكون أولى ضحايا السياسة.

 

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى