
دينا زكريا
في كتابها العميق والمؤثر “أنا ماريا” (I Am Maria)، تكشف الكاتبة والصحفية الأمريكية ماريا شرايفر عن رحلة إنسانية حافلة بالصدمات والتحولات، مزجت فيها بين الشعر والتأمل، وسردت تفاصيل أكثر مراحل حياتها ألمًا وصدقًا. يتناول الكتاب محاور كبرى مثل الهوية، الحزن، الحب، الفقد، الشوق، كسر القلب، والشفاء، من منظور امرأة عاشت في قلب الضوء، لكنها اختبرت الظل بكل قسوته.
سقوط الإمبراطورية الخاصة
كان زواج ماريا شرايفر من نجم هوليوود وحاكم ولاية كاليفورنيا السابق أرنولد شوارزنيغر، صورة للعلاقة المثالية أمام العالم. لكن خلف هذا البريق، كان هناك جرح خفي، انفجر حين اكتشفت ماريا خيانة زوجها وإنجابه طفلًا من مدبرة المنزل. لم تكن الصدمة مجرد أزمة زوجية، بل زلزالًا زعزع وجودها كله.
وصفَت ماريا تلك الفترة بـ”الوحشية” و”المرعبة”. شعرت بالحزن، الارتباك، الغضب، الخوف، والقلق. لكن الأشد قسوة كان الشك في ذاتها. من تكون إن لم تكن زوجة النجم السياسي؟ من تكون بعيدًا عن لقب “شرايفر” أو “كينيدي”؟
من رماد الانكسار… بدأت الحكاية
ماريا، التي نشأت في واحدة من أكثر العائلات نفوذًا في التاريخ الأمريكي الحديث، عائلة كينيدي، تربت على قناعة راسخة: “لا تعِش فقط لنفسك، عليك أن تترك أثرًا… عليك أن تغيّر العالم”.
جدها جوزيف كينيدي، وعمها الرئيس الراحل جون كينيدي، وكثيرون من أفراد عائلتها كانوا سياسيين وخُدّامًا عامين. داخل هذا البيت، لم يكن النجاح خيارًا، بل مسؤولية. كانت تسمع دائمًا:
“أنتِ من عائلة كينيدي… لا بد أن تصنعي فرقًا.”
هذه التربية منحتها دافعًا قويًا، لكنها حملت معها أيضًا عبئًا نفسيًا هائلًا. فطوال الوقت، كانت ماريا تشعر أن حياتها ليست بالكامل ملكًا لها، وأنها تعيش تحت سقف التوقعات الجمعية أكثر من طموحاتها الخاصة.
الكتابة كنافذة خلاص
بعد انهيار زواجها، وجدت ماريا في الكتابة ملاذًا للشفاء، ومساحة لاكتشاف الذات الحقيقية. كتبت بشفافية عن صراعاتها، عن إعادة بناء هويتها بعيدًا عن أدوار الزوجة والمشهورة والكينيدية. وقالت في إحدى صفحات الكتاب:
“كنت أظن أن الزواج هو ما يمنح المرأة قيمتها، لكنني أدركت أن السعادة الحقيقية تبدأ من الداخل.”
من هذا الإدراك، بدأت ماريا تبني ذاتها من جديد، لا لتعود كما كانت، بل لتصبح أكثر صدقًا مع نفسها. كتبت، تحدثت، ألهمت، واستمرت في تقديم برامج إعلامية وكتب سلطت الضوء على قضايا الصحة النفسية، حقوق ذوي الإعاقة، وتمكين النساء.
هل غيّرت العالم؟
في أكثر من حوار، أبرزها لقاءها الصريح مع أوبرا وينفري، تحدثت ماريا عن نظرتها الجديدة لفكرة “تغيير العالم”. لم تعد تسعى لتغيير ضخم على مستوى السياسات أو الثورات. بل أصبحت تؤمن أن التغيير يبدأ من البسيط، من اليومي، من الإنسان للإنسان.
قالت:
“أنا غيّرت العالم عندما ربيت أطفالي ليكونوا طيبين.
غيّرت العالم حين استمعت لشخص كان يتألم.
غيّرت العالم حين كتبت بصدق.”
هذا التحول في المفهوم حمل دلالة عميقة: أن التغيير لا يُقاس بالضجيج أو العناوين، بل بالرحمة، والصدق، والنية الطيبة.
درس للجيل… من الحكاية إلى الوعي
رحلة ماريا شرايفر ليست مجرد سيرة ذاتية لامرأة مشهورة، بل هي شهادة حيّة على أن الإنسان قادر على النهوض بعد السقوط، وقادر على تحويل الألم إلى وعي، والجرح إلى رسالة.
إن قصة “أنا ماريا” تفتح الباب للتفكير في كيف يمكننا، نحن أيضًا، أن نغيّر العالم – لا عبر شعارات جوفاء أو أحلام ضخمة فقط، بل عبر كل فعل إنساني بسيط نحمله في نيتنا، وسلوكنا، وكلماتنا.
تعليق أخير:
في زمن يغلب عليه التوحش، ويعمّه الانحدار القيمي، نحتاج إلى بناء جيل جديد من البشر، جيل ينتمي لا عبر الأغاني الوطنية، بل عبر شعور حقيقي بالمسؤولية تجاه مجتمعه.
نحتاج إلى أن نُربّي أبناءنا على أن يكون لكل فرد منهم رسالة… وأن “يغيّر العالم”، ليس بالكلام، بل بالفعل.
فهل آن أوان يقظة أخلاقية تعيد لهذه الأمة روحها؟
هل من رجل رشيد يقود مسيرة إصلاح في بلد كان يومًا ما يُعرف بـ”بلد العلم والإيمان”؟