دينا زكريا
في زمنٍ تزداد فيه الضوضاء حول مفاهيم الهوية والقيم المجتمعية، يبرز مصطلح “الرجولة” كواحد من أكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه وسوء الفهم، لا سيما في مجتمعاتنا العربية التي تربت على أنماط معينة تعكس صورة نمطية للرجل: القوي، الصلب، الذي لا يلين، والذي لا يُظهر مشاعره.
لكن، هل هذه هي الرجولة حقًا؟
وهل البكاء ضعف؟ وهل القوة الحقيقية تُقاس بعضلات مشدودة وصوت جهوري؟
في هذا المقال، سنغوص عميقًا في مفهوم الرجولة: كيف نشأ، كيف تغير، وما معنى أن تكون رجلًا في العصر الحديث.
🌱 الرجولة: المفهوم الجوهري
الرجولة ليست مظهرًا خارجيًا، ولا سلوكًا عدوانيًا، بل هي مجموعة من القيم والمبادئ التي يتّسم بها الإنسان بغض النظر عن جنسه، لكنها في سياق الرجل تعني:
-
الصدق في القول والفعل
-
القدرة على تحمّل المسؤولية
-
حماية الضعفاء لا التسلط عليهم
-
الرحمة والشهامة
-
الوفاء بالعهد
الرجولة هي الوقوف مع الحق، حتى لو كان الثمن باهظًا. وهي أيضًا اللين مع من نحب، والحنان على من يحتاج.
🧠 الرجولة في الوعي الجمعي العربي
في ثقافتنا العربية، ارتبطت الرجولة بالقوة الجسدية، وربما بالسيطرة أو حتى “القسوة”. في بعض البيوت، يُمنع الصبي من البكاء لأنه “رجل”، وتُجبر الفتاة على السكوت لأن “الرجال لا يحبون الكلام الكثير”.
هذه التقاليد ليست سوى قوالب جاهزة ساهمت في بناء صورة مشوهة عن الرجولة الحقيقية، حيث تحوّل كثير من الذكور إلى رجال بالهوية، لا بالجوهر.
🧭 الرجولة في العصر الحديث
مع تطور الوعي الإنساني وارتفاع أصوات حقوق الإنسان والمساواة، بدأت المجتمعات تتساءل:
هل الرجولة تعني السيطرة؟
هل هي نقيض للأنوثة؟
هل يجب أن يكون الرجل دائمًا القائد في المنزل والعمل؟
الحقيقة أن الرجولة الحقيقية لا تتناقض مع المشاعر، بل تكتمل بها.
فالرجل القوي ليس من يكبت حزنه، بل من يعرف متى يعبر عنه.
وليس من يفرض سلطته على الآخرين، بل من يكسب احترامهم برقيّ أخلاقه ونبل مواقفه.
📚 قصص واقعية عن الرجولة
نجد نماذج كثيرة في التاريخ تعبر عن الرجولة بمفهومها الراقي:
-
الرسول محمد ﷺ: كان أكثر الناس رحمة بأهله، وخيرهم لأهله، ورفيقًا في المعاملة، لكنه في الوقت ذاته كان قائدًا شجاعًا وعادلًا.
-
عمر بن الخطاب: رجل دولة وحكم، ولكنه اشتهر ببكائه من خشية الله، وقبوله للنقد من امرأة عادية في السوق.
هؤلاء ليسوا فقط رموزًا دينية، بل نماذج إنسانية عظيمة تُظهر أن الرجولة لا تعني الغرور أو التكبر أو العنف، بل العدل، والرحمة، والقيادة الصادقة.
⚖️ الفهم الخاطئ للرجولة وآثاره على المجتمع
الفهم الخاطئ للرجولة يؤدي إلى:
-
العنف الأسري
-
كبت العواطف
-
العلاقات الزوجية الفاشلة
-
تربية جيل يفتقر للتوازن العاطفي
ولهذا فإن إعادة تعريف الرجولة ليست مسألة فلسفية فقط، بل قضية مجتمعية تمس جوهر العلاقات داخل الأسرة والعمل والمجتمع ككل.
💡 كيف نعيد بناء مفهوم الرجولة؟
-
التربية السليمة من الطفولة: علم ابنك أن يبكي، أن يعتذر، أن يحب، أن يحترم المرأة.
-
النماذج الإيجابية: أظهر له رجالًا حقيقيين بتصرفاتهم لا بأجسادهم.
-
الإعلام والتأثير الثقافي: توقف عن تمجيد “البلطجي” والمسيطر كرمز للرجولة.
-
تعليم القيم قبل السلطة: علّم أولادك أن الشجاعة تبدأ من قول “لا” للخطأ، لا من رفع الصوت.
الرجولة ليست لقبًا يُمنح عند الولادة، بل سلوك يُكتسب يومًا بعد يوم.
هي ليست حربًا على الأنوثة، بل شراكة معها.
هي ليست كتمانًا للمشاعر، بل ضبطًا لها.
الرجولة الحقيقية هي أن تكون إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
