
كتبت دينا زكريا
في حين اعتادت الأبحاث النفسية أن تربط النرجسية بمظاهر خارجية مثل الغرور، التلاعب بالآخرين، وعدم تقبل النقد، تكشف دراسة جديدة ومثيرة للجدل عن جانب غير متوقع من هذه الشخصية المعقدة: “الاشمئزاز” من الطرف الآخر في العلاقة العاطفية، ليس مجرد شعور عابر، بل قد يكون مرآة تعكس خللاً أعمق في شخصية الفرد.
فقد نشرت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية تقريرًا حول دراسة أجراها فريق بحثي بقيادة طالبة الدراسات العليا إليانا سوندرز من جامعة أزوسا باسيفيك، تشير فيه إلى أن الشعور المفاجئ بالنفور أو “الاشمئزاز” من الشريك، والذي غالبًا ما يظهر دون سابق إنذار، قد يكون دليلًا على سمات نرجسية كامنة لدى الشخص المُشمئز.
بين الوسم والملاحظة العلمية: بداية الفرضية
بدأت الدراسة من ظاهرة واسعة الانتشار على منصات التواصل الاجتماعي، وبخاصة على تطبيق “تيك توك”، حيث حلل الباحثون أول 100 مقطع فيديو تم نشرها تحت وسم (#theick)، وهو مصطلح يُستخدم لوصف شعور مفاجئ بالنفور أو الاشمئزاز من تصرفات بسيطة للشريك مثل طريقة الأكل، ارتداء ملابس غير ملائمة، أو استخدام عبارات اعتبرها البعض مزعجة أو “محرجة اجتماعيًا”.
هذه المقاطع، التي قد تبدو ترفيهية للوهلة الأولى، لفتت انتباه الفريق البحثي إلى إمكانية وجود نمط نفسي مشترك وراء هذه الانفعالات المفاجئة. ومن هنا انطلقت الفرضية الأساسية: هل يمكن أن يكون الشعور بـ”الاشمئزاز” دليلًا على تركيبة نفسية أكثر تعقيدًا، مثل النرجسية؟
منهجية الدراسة: من السوشيال ميديا إلى المختبر
بهدف اختبار هذه الفرضية، قام الفريق بتجنيد 125 مشاركًا أعزبًا من الرجال والنساء، تتراوح أعمارهم بين 24 و72 عامًا. وطُلب من المشاركين تقييم مدى احتمال شعورهم بالاشمئزاز استجابة لمجموعة من المحفزات المستوحاة من مقاطع TikTok، مثل سلوكيات مزعجة أو غير لائقة اجتماعيًا.
كما خضع المشاركون لاختبارات نفسية لقياس سمات الشخصية، وتحديدًا مدى توافر خصائص نرجسية لديهم، فضلًا عن الإجابة على أسئلة تفصيلية تتعلق بتاريخهم في العلاقات العاطفية.
نتائج صادمة: ثلثا العينة اختبروا الشعور بالاشمئزاز
أظهرت النتائج أن حوالي 64% من المشاركين – أي ما يقرب من ثلثي العينة – أفادوا بأنهم مروا بشعور مفاجئ بالنفور من الشريك في مرحلة ما من حياتهم العاطفية. كما كشفت الدراسة أن النساء أكثر عرضة من الرجال للشعور بهذا النفور، خاصة في حال تعلق الأمر بكلمات مزعجة أو سلوكيات تنطوي على ميول معادية للنساء.
وبحسب ما أفادت به الباحثة إليانا سوندرز:
“كان من المدهش أن نرى أن حوالي 25% من المشاركين قرروا إنهاء العلاقة على الفور بعد شعورهم بالاشمئزاز، دون إعطاء الشريك فرصة ثانية أو تفسير واضح.”
الرجال والنفور من الغرور… النساء والنفور من التسلط
تعمقت الدراسة في تحليل الفروقات بين الجنسين في مسببات الاشمئزاز، حيث تبين أن الرجال أكثر حساسية تجاه الغرور أو التصرفات “الدرامية”، بينما كانت النساء أكثر عرضة للنفور من السلوكيات المسيئة أو الكلمات الجارحة، ما يعكس اختلافًا جذريًا في طريقة تلقي المحفزات الاجتماعية والعاطفية بين الجنسين.
النرجسية وعلاقتها بالاشمئزاز: سلوك أم اضطراب؟
خلص الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يعانون من سمات نرجسية – مثل الشعور المفرط بالتفوق، فرض معايير عالية على الآخرين، أو عدم القدرة على التقبل العاطفي – هم أكثر عرضة لتجربة “الاشمئزاز” في العلاقات.
وبحسب الدراسة، فإن هذا الشعور لا يرتبط فقط بموقف معين، بل ينبع من نمط تفكير نرجسي يرى الآخر على أنه دون المستوى المطلوب أو غير “مناسب” من الناحية الجمالية أو السلوكية.
الدكتورة “سوندرز” تعلق على هذه النتائج قائلة:
“الاشمئزاز قد لا يكون مجرد رد فعل طبيعي تجاه سلوك غير لائق، بل قد يعكس رغبة نرجسية داخلية في السيطرة وإقصاء الآخر عندما لا يلبي المعايير الشخصية المتطرفة للفرد.”
وسائل التواصل الاجتماعي… هل تغذي النرجسية؟
ربما تكون أحد أكثر الجوانب المثيرة للقلق في نتائج الدراسة هو ارتباط هذه المشاعر بممارسات التواصل الاجتماعي المعاصرة، حيث أصبح تقييم الآخرين علنًا شائعًا ومقبولًا، بدءًا من المظهر إلى السلوك وحتى العبارات التي يستخدمونها.
منصة مثل TikTok، التي تُستخدم من قِبل الملايين حول العالم، قد تكون تساهم من حيث لا تدري في تضخيم سلوكيات النرجسية من خلال التشجيع على تسليع العلاقات العاطفية وتحويلها إلى محتوى ترفيهي.
هل “الاشمئزاز” هو إنذار مبكر للعلاقات السامة؟
من المنظور النفسي، تطرح نتائج الدراسة تساؤلات هامة: هل يمكن اعتبار الاشمئزاز إشارة تحذيرية من علاقة لا تناسبنا؟ أم أنه مجرد إسقاط لنرجسية غير معترف بها؟ وهل من الإنصاف إنهاء علاقة بسبب سلوك بسيط دون محاولة الفهم أو التواصل؟
الخبراء يحذرون من اتخاذ قرارات متسرعة بناءً على مشاعر آنية، خاصة في ظل الدور المتزايد للمعايير الاجتماعية غير الواقعية في تشكيل توقعاتنا عن العلاقات.
النرجسية… العدو الخفي للعلاقات العاطفية؟
تفتح هذه الدراسة الباب واسعًا أمام النقاش حول أثر السمات النرجسية على استقرار العلاقات، وكيف يمكن أن تتحول المشاعر السلبية مثل الاشمئزاز إلى معول هدم لا يُرى للوهلة الأولى.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه ضغوط الحياة المعاصرة، يصبح الفهم الأعمق للتركيبة النفسية للفرد ضرورة لا غنى عنها لتجنب العلاقات المؤذية، سواء للطرف المتسم بالنرجسية أو ضحيته.