
دينا زكريا
بيرجا، تركيا – يونيو 2025
بعد قرون من الصمت والجفاف، استعادت نافورة كيستروس التاريخية في مدينة بيرجا القديمة تدفق مياهها، في لحظة تاريخية تعيد إلى الأذهان عظمة الحضارات الكلاسيكية، وتُبرز أهمية الحفاظ على الإرث المعماري والهندسي الذي تركته الإمبراطورية الرومانية. هذه الخطوة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا، جاءت تتويجًا لجهود ترميم استمرت لأكثر من عامين، جمعت بين دقة البحوث الأثرية وحداثة التكنولوجيا، لتعيد إلى الحياة واحدًا من أبرز المعالم المائية في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
هدية من الإمبراطور هادريان: إرث معماري حي
تعود أصول نافورة كيستروس إلى القرن الثاني الميلادي، عندما أمر الإمبراطور الروماني هادريان ببنائها ضمن خطته الشاملة لتطوير البنية التحتية في المستعمرات الرومانية. كانت النافورة تُستخدم آنذاك لنقل المياه من نهر كيستروس – المعروف اليوم باسم نهر أكسو – إلى قلب مدينة بيرجا، عبر شبكة قنوات حجرية متقنة بطول 700 متر، تُعتبر تحفة هندسية بكل المقاييس.
وكانت هذه النافورة مركزًا حيويًا للحياة اليومية في المدينة، ليس فقط كمصدر مستدام للمياه، ولكن أيضًا كرمز حضاري يعكس مدى تقدم المجتمعات الرومانية في مجال تخطيط المدن وإدارة الموارد. حيث ساهم نظام توزيع المياه في تعزيز النظافة العامة، ودعم الزراعة الحضرية، وتوفير الماء للحمامات والمنازل والأسواق.
من الجفاف إلى الحياة: رحلة ترميم دقيقة بدأت عام 2022
بدأت عملية الترميم الفعلية في عام 2022، بإشراف فريق متعدد التخصصات من علماء الآثار، ومهندسين، ومختصين في المياه القديمة. وتمثلت الخطوة الأولى في تتبع القنوات الأصلية التي بُنيت منذ ما يقارب 1900 عام، حيث قام الفريق بإزالة الأتربة والترسبات الحجرية التي كانت تسد الممرات المائية، مستخدمين تقنيات تصوير تحت الأرض وتحليل رقمي لتحديد المسارات بدقة.
وبعد شهور من العمل الشاق، تمكن الباحثون من إعادة تفعيل 100 متر من النافورة، وهي المرحلة الأولى من المشروع، مع خطط لتوسيع نطاق الترميم ليشمل أجزاء أخرى من الشبكة الهيدروليكية المكتشفة أثناء الحفريات. وتم الحرص على استخدام مصدر المياه الأصلي نفسه الذي اعتمدت عليه بيرجا في العصور القديمة، في خطوة ترسّخ التزام المشروع بالحفاظ على الأصالة التاريخية.
شهادة على عبقرية الرومان في إدارة الموارد
الدكتور أيتاش دونميز، نائب رئيس بعثة التنقيب في بيرجا، عبّر عن دهشته من مدى دقة وتعقيد النظام المائي الذي بناه الرومان قبل قرون، مؤكدًا أن هذا الاكتشاف يُعد دليلًا حيًا على قدراتهم الهندسية الخارقة. وقال: “نحن لا نتحدث فقط عن إعادة تدفق الماء في قناة حجرية، بل عن استعادة نظام مصمم للاستدامة، باستخدام مبادئ هندسية لا تزال تدهشنا حتى اليوم.”
وتُعد قدرة هذه الأنظمة على الصمود لقرون، رغم الزلازل والعوامل الطبيعية والهجر السكاني، دليلًا على عمق الرؤية التخطيطية التي تبناها الرومان في مستعمراتهم، وهو ما يجعل من نافورة كيستروس نموذجًا يمكن الاستفادة منه في دراسات الهندسة المستدامة الحديثة.
بيرجا: مدينة الأرتميس والمهرجانات
لكن النافورة ليست إلا جزءًا من اللوحة المعمارية والتاريخية المذهلة التي تقدمها مدينة بيرجا، التي تُعتبر واحدة من أهم المراكز الحضرية اليونانية-الرومانية في منطقة الأناضول. وقد تأسست بيرجا في العصور القديمة كمستوطنة يونانية، وبلغت ذروتها تحت الحكم الروماني، حيث اشتهرت بكونها مركزًا للفنون والثقافة والرياضة، وموقعًا مهمًا لعبادة المعبودة أرتميس.
وكان معبد أرتميس يقع خارج أسوار المدينة، ويُعد أحد المعالم البارزة التي جذبت الحجاج والزوار من مختلف أرجاء الإمبراطورية. كما احتضنت بيرجا مهرجانات سنوية احتفاءً بالمعبودة، شملت مسابقات رياضية وعروضًا فنية، مما جعلها مركزًا للإشعاع الحضاري طوال قرون.
فرصة لإحياء السياحة والاهتمام العالمي
إعادة تشغيل نافورة كيستروس تُعد إنجازًا أثريًا كبيرًا، لكنها أيضًا تفتح الباب أمام إعادة تنشيط السياحة في المنطقة، التي أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي المؤقتة عام 2009. ويأمل الباحثون أن تُسهم هذه الخطوة في جذب اهتمام الزوار والمستثمرين والدارسين، لما تمثله بيرجا من قيمة تاريخية وعلمية نادرة.
وتؤكد السلطات التركية والمجتمع الأكاديمي أن المشروع قد يتحول إلى نموذج يحتذى به في كيفية إعادة إحياء التراث القديم، ليس فقط للحفاظ عليه كمجرد أطلال، بل لإدماجه ضمن حياة المجتمعات المعاصرة، وتحويله إلى مصدر للإلهام والتعليم والسياحة المستدامة.
نافورة تتحدث بلغة الأجيال
في زمن تتسارع فيه وتيرة التحديث والعولمة، تقف نافورة كيستروس كشاهد مائي نابض على أن الحضارات لا تموت، بل يمكن لها أن تعود للحياة متى ما وُجد الشغف والمعرفة والإرادة. إن تدفق المياه من جديد في قلب بيرجا ليس مجرد إنجاز أثري، بل رسالة رمزية بأن الماضي، مهما بَعُد، لا يزال يملك القدرة على إنارة الحاضر، ورسم ملامح مستقبل أكثر اتصالًا بالجذور الإنسانية العميقة.
وفي ظل هذا الإنجاز، تتطلع الأنظار إلى مشاريع أخرى قد تُعيد الحياة إلى معالم أثرية نُسيت عبر العصور، وتُبرز أن العبقرية القديمة لا تزال تنبض في كل حجر، وكل قناة، وكل نافورة تنتظر لحظة عودتها.