
على امتداد السلاسل الجبلية التي تزين قلب الصحراء الشرقية، حيث يلتقي وهج الشمس بلون الرمال الذهبي وتتناثر الصخور كأنها قطع من ذاكرة الأرض، يقف جبل شايب البنات شامخًا، كأحد أبرز المعالم الطبيعية في منطقة البحر الأحمر بمصر. ارتفاعه الذي يناهز 2187 مترًا يجعله ثاني أعلى قمة في هذه السلاسل، وثالث أعلى قمة في مصر والسودان بعد جبل كاترين وجبل موسى في سيناء، ليحمل عن جدارة لقب “إفرست البحر الأحمر” أو “إفرست الغردقة” كما يطلق عليه عشاق المغامرة.
لكن هذا الجبل ليس مجرد كتلة صخرية مرتفعة أو وجهة لتسلق الجبال، بل هو قطعة من التاريخ الطبيعي والثقافي الممتد عبر قرون، ومرآة تعكس العلاقة العميقة بين الطبيعة والإنسان، بين قوة الأرض وصلابة سكانها الذين ورثوا أسرارها جيلًا بعد جيل.
الموقع والجغرافيا: صرح شاهق على بوابة الغردقة
يقع جبل شايب البنات في الاتجاه الجنوبي الغربي لمدينة الغردقة، على مسافة تقارب 45 كيلومترًا من قلب المدينة، وهو جزء من سلسلة جبال البحر الأحمر التي تمتد موازيًا للساحل الشرقي لمصر، حاملة في طياتها تنوعًا جيولوجيًا وجماليًا لا يضاهى.
وإذا كانت جبال البحر الأحمر قد اشتهرت تاريخيًا بدورها في عزل الصحراء الشرقية عن ساحل البحر، فإن شايب البنات أضاف إليها بُعدًا آخر؛ بُعد المغامرة والاكتشاف، حيث يستقطب هذا الجبل هواة تسلق القمم من داخل مصر وخارجها، ممن يبحثون عن تجارب فريدة تتجاوز حدود السياحة التقليدية.
سر التسمية: ملامح الشايب في ضوء الفجر
يقول سكان صحراء الغردقة، وخاصة من قبائل المعازة وجهينة، إن الجبل حصل على اسمه لسببين؛ الأول جغرافي بصري، والثاني ثقافي رمزي.
ففي أول ضوء للشمس، تُلقي أشعة الفجر بظلالها على قمته، فترسم ملامح وجه رجل عجوز بلحية بيضاء، وهو ما جعلهم يطلقون عليه اسم “الشايب”. أما كلمة “البنات”، فتعود -بحسب بعض الروايات البدوية- إلى أسطورة محلية قديمة تتحدث عن مجموعة من الفتيات اللواتي لجأن إلى الجبل طلبًا للحماية في زمن الصراعات، فاحتضنهن وأصبح يحمل اسمهن.
هذه الحكاية، وإن كانت تتفاوت تفاصيلها بين الروايات، تضيف بعدًا إنسانيًا ووجدانيًا للجبل، يجعله حاضرًا في الذاكرة الشعبية، لا بوصفه معلمًا طبيعيًا فحسب، بل كرمز للملاذ والأمان.
إفرست الغردقة: وجهة للمغامرين
بفضل ارتفاعه المهيب وموقعه الاستراتيجي، أصبح جبل شايب البنات يعرف بين محبي تسلق الجبال بـ”إفرست الغردقة”. وعلى الرغم من أن رياضة التسلق في مصر لم تصل بعد إلى الشعبية العالمية التي تحظى بها في بلدان أخرى مثل نيبال أو الأرجنتين، فإن الجبل يظل وجهة أساسية لهواة المغامرة الذين يبحثون عن تحديات طبيعية تتطلب مهارات بدنية عالية وخبرة في التعامل مع التضاريس الصعبة.
محمد علي، منظم رحلات سفاري جبلية بالغردقة، يوضح أن الجبل يمثل اختبارًا حقيقيًا للقدرات البدنية، وأن الرحلة إلى قمته لا تقتصر على مجرد الصعود، بل هي تجربة متكاملة تبدأ من لحظة مغادرة المدينة، مرورًا بالوديان الضيقة والممرات الصخرية، وحتى بلوغ القمة حيث المشهد البانورامي الساحر.
من أعلى القمة: رؤية تتجاوز الحدود
يضيف محمد علي أن ما يميز جبل شايب البنات حقًا، هو المشهد الذي يكافئ به المغامر عند وصوله إلى القمة؛ فمن هناك يمكن للعين أن تمتد لترى جبال سيناء في الشمال، وجبال قنا في الغرب، وكأنك في نقطة تتلاقى عندها الجغرافيا مع الخيال.
هذا الامتداد البصري يمنح المتسلقين شعورًا نادرًا بالتحرر والانتماء في آن واحد، ويجعل من التجربة رحلة روحانية بقدر ما هي مغامرة رياضية.
أهمية ثقافية للسكان المحليين
الجبل بالنسبة لأبناء الصحراء ليس مجرد كتلة من الصخور، بل هو علامة مميزة على خريطة تنقلاتهم. ويقول البدو إن قمة شايب البنات كانت ولا تزال بمثابة “البوصلة الطبيعية” التي تهديهم عبر طرق الصحراء.
في بيئة تندر فيها المعالم الثابتة، يصبح الجبل بمثابة مرجع جغرافي وروحي، ويكفي أن يطل أحد أبناء القبائل عليه ليعرف اتجاه الشمال أو موقعه بالنسبة للمدن والوديان.
المياه وسط الصحراء: بحيرة شايب البنات
وسط الطبيعة القاسية، يحتضن الجبل مفاجأة غير متوقعة؛ بحيرة صغيرة تقع في منتصفه، تتجمع مياهها من الأمطار والسيول الموسمية.
هذه البحيرة ليست مجرد مشهد جمالي، بل هي شريان حياة يوفر المياه الصالحة للشرب للسكان المحليين وللرحلات التي تمر بالمكان، في منطقة يندر فيها وجود مصادر المياه الطبيعية.
التحديات والصعوبات
رغم جاذبية الجبل، إلا أن الوصول إلى قمته ليس بالأمر السهل. ويشير أيمن معوض، أحد أبناء القبائل البدوية، إلى أن كثيرًا من السياح يكتفون بالوصول إلى محيط الجبل أو بعض منحدراته، بينما ينجح القليل منهم في بلوغ القمة بسبب وعورة الطريق وخطورة بعض الممرات الصخرية.
ومع ذلك، فإن أبناء القبائل صعدوا القمة مرات عديدة، وغالبًا ما يقومون بدور المرشدين للمغامرين الذين يودون خوض التجربة.
البحر الأحمر: سياحة تتجاوز الشواطئ
تعد محافظة البحر الأحمر من أبرز المقاصد السياحية في مصر، فهي تضم مدنًا عالمية مثل الغردقة وسفاجا ومرسى علم. ومع بداية العام الحالي، شهدت المحافظة إقبالًا كبيرًا من السياح القادمين من 58 دولة، وبلغت نسب إشغال الفنادق أكثر من 65% في الربع الأول من العام.
لكن خلف الشواطئ والفنادق الفاخرة، توجد كنوز طبيعية غير مكتشفة بالكامل، مثل جبل شايب البنات، الذي يمكن أن يشكل ركيزة لتطوير نوع جديد من السياحة في المنطقة، وهو سياحة المغامرات البيئية.
فرص التطوير: نحو سياحة تسلق عالمية
رغم إمكانياته الطبيعية الهائلة، إلا أن الجبل لا يزال بحاجة إلى بنية تحتية سياحية مهيأة لاستقبال أعداد أكبر من محبي التسلق.
ويتطلب ذلك إنشاء مسارات آمنة، وتوفير نقاط استراحة، وتدريب مرشدين متخصصين، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات دولية للتسلق يمكن أن تضع شايب البنات على خريطة المغامرات العالمية.
أسطورة على قيد الحياة
جبل شايب البنات ليس مجرد قمة شاهقة أو نقطة على خريطة الجغرافيا المصرية، بل هو جزء من هوية البحر الأحمر، ومزيج من الجمال الطبيعي والأسطورة الشعبية والتحدي الرياضي.
كل رحلة إليه هي لقاء مع التاريخ والجغرافيا والثقافة، وكل خطوة على منحدراته هي حوار مع الأرض التي حملت أسرارها عبر آلاف السنين.
وفي زمن يتسارع فيه إيقاع الحياة، يبقى شايب البنات شاهدًا على أن الطبيعة ما زالت تحتفظ بقدرتها على الإبهار، وعلى أن الإنسان، مهما تقدم في التكنولوجيا، سيظل بحاجة إلى تلك اللحظات التي يقف فيها على قمة جبل، يتنفس هواءً نقيًا، ويشعر أن العالم بين يديه.