
دينا زكريا
لهفة البدايات وغموض النهايات
في بداية العلاقة، قد يبدو الرجل وكأنه لا يطيق صبرًا على البقاء بعيدًا عن المرأة التي أعجب بها. يمطرها بالكلمات، يغرقها بالاهتمام، ويلاحقها برسائل لا تنقطع. ثم، فجأة أو تدريجيًا، يتغير كل شيء. يقل التواصل، تختفي المبادرات، ويبدأ التجاهل في التسلل إلى المشهد. فتقف المرأة أمام هذا التغير حائرة، تتساءل: ما الذي حدث؟ ولماذا كل هذا التناقض؟ هل كنتِ مجرد نزوة؟ أم أن هناك أسبابًا أعمق لهذا الانسحاب الصامت؟
في هذا التحقيق المطول، نغوص في أعماق النفس الذكورية، ونسبر أغوار العلاقات العاطفية الحديثة، لنفهم لماذا يتحول بعض الرجال من شغفٍ شديد إلى برودٍ قاتل.
الفقرة الأولى: لعبة الإعجاب… هل كانت حقيقية؟
في علم النفس الاجتماعي، يشير خبراء العلاقات إلى أن بعض الرجال يميلون في بداية العلاقة إلى ما يُعرف بـ”الإغراق العاطفي المفاجئ” (love bombing)، وهي حالة يقوم فيها الطرف المعجب بإظهار اهتمام مفرط، يعكس شوقًا أو تعلقًا كبيرًا في فترة زمنية قصيرة. لكن هذا السلوك قد لا يكون دائمًا دليلاً على الحب الحقيقي.
في كثير من الأحيان، يكون هذا الاندفاع مدفوعًا برغبة داخلية في كسب إعجاب الطرف الآخر أو إشباع حاجة شخصية، مثل الشعور بالقبول، أو إثبات الجاذبية الذاتية. وبمجرد أن تتحقق هذه الرغبة، ينخفض الحافز، وتبدأ مؤشرات التجاهل في الظهور.
الفقرة الثانية: الخوف من الالتزام… صراع داخلي غير معلن
يُعد الخوف من الالتزام واحدًا من أكثر الأسباب شيوعًا وراء انسحاب الرجل بعد فترة من الاهتمام المكثف. فبعض الرجال يندفعون نحو العلاقة بشغف، لكنهم عندما يشعرون أن الأمور بدأت تأخذ طابعًا جديًا، يصابون بالذعر. هذا الخوف قد يكون نتيجة تجارب سابقة فاشلة، أو تربية اجتماعية تُحمل الرجل عبء المسؤولية العاطفية بشكل مقلق.
في هذه الحالات، يُفضل الرجل الانسحاب تدريجيًا على أن يواجه المرأة بصراحة. التجاهل يصبح طريقًا للهروب، بدلًا من المواجهة المباشرة، خوفًا من إيذاء مشاعرها أو إثارة نقاشات قد لا يعرف كيف يديرها.
الفقرة الثالثة: سيكولوجيا “الصياد”… عندما تكون المطاردة هي الهدف
من زاوية أخرى، هناك نمط نفسي لدى بعض الرجال يُعرف بـ”نمط الصياد”، حيث تكون المتعة في مطاردة الفريسة أكثر منها في الاحتفاظ بها. حين يشعر الرجل أنه “فاز” بالمرأة وضمن حبها، يفقد شغفه تدريجيًا. فبالنسبة له، الهدف كان التحدي، وليس بناء علاقة متينة.
هؤلاء الرجال قد لا يكونون بالضرورة سيئين أو متلاعبين عمدًا، بل قد يجهلون أنفسهم تمامًا، ولا يدركون أنهم يتصرفون بدافع غريزي مشوش. هذا النوع من الشخصيات كثيرًا ما يترك وراءه نساءً متألمات يتساءلن عمّا ارتكبن من خطأ.
الفقرة الرابعة: التشتت العاطفي… العلاقات المتعددة والمقارنات اللاواعية
في عصر التواصل الدائم وتطبيقات المواعدة، أصبح من السهل الوقوع في فخ التشتت العاطفي. قد يبدأ الرجل علاقة حقيقية، ثم فجأة يظهر اهتمامًا آخر في حياته – قد يكون شخصًا جديدًا أو حتى علاقة قديمة تعود من الماضي. في هذه الحالة، يتحول تركيزه تدريجيًا دون أن يعلن ذلك صراحة.
كما أن بعض الرجال، مع الانفتاح الكبير على مقاييس “المثالية العاطفية”، يقعون في فخ المقارنة. وحين لا يجد في شريكته الصفات التي رسمها في خياله، يبدأ بالتراجع، لا لأنه لا يحبها، بل لأنه يطارد وهْمًا صعب المنال.
الفقرة الخامسة: النرجسية المقنعة… عندما يُستخدم الحب وسيلة للسيطرة
هناك نوع آخر من الرجال يظهر في البداية وكأنه مثالي، يعطي بلا حدود، يهتم بكل التفاصيل، ويُشعركِ بأنك محور حياته. لكن خلف هذا القناع، قد يختبئ رجل نرجسي، لا يبحث عن علاقة متكافئة، بل عن شخص يلبي له حاجاته النفسية.
في هذه الحالات، يكون الاهتمام الزائد هو وسيلة للسيطرة، وعندما يشعر النرجسي أن “ضحيته” أصبحت مرتبطة به، يبدأ في التجاهل ليخلق خللاً عاطفيًا يجعلها تطارده، وتبرر له، وتحاول إصلاح ما لا يمكن إصلاحه. فيتحول الاهتمام إلى أداة للهيمنة، والتجاهل إلى وسيلة لإثارة القلق والضعف.
الفقرة السادسة: الرسائل المختلطة… حين لا يكون الرجل واضحًا حتى لنفسه
أحيانًا لا يكون الرجل مدفوعًا بنيّة سيئة أو بنمط نفسي معقد، بل فقط بعدم وضوح داخلي. قد يشعر بالارتياح مع امرأة ما، ويحب وجودها في حياته، لكنه لا يملك النضج العاطفي لتحديد موقفه بدقة. فيرسل إشارات متناقضة: مرة يقربها، ومرة يبتعد. يهتم بشدة، ثم يختفي دون مبرر.
هذا السلوك يترك المرأة في دوامة من الشكوك والتفكير المفرط، ما بين تفسير الأمور بشكل عقلاني أو غريزي. وهذا النوع من العلاقات يُعدّ من أكثر الأنماط إنهاكًا نفسيًا.
الفقرة السابعة: كيف تتعامل المرأة مع هذا التجاهل؟
أول ما يجب أن تدركه المرأة حين تواجه هذا النوع من التجاهل، هو أن المشكلة لا تعني بالضرورة نقصًا فيها. الكثير من النساء يقعن في فخ جلد الذات، ويبدأن بتفكيك تصرفاتهن بحثًا عن “الخطأ الذي أفسد كل شيء”، في حين أن أسباب التجاهل قد تكون خارجة تمامًا عن إرادتها.
التعامل مع هذا الموقف يتطلب وعيًا عاطفيًا. إن كانت العلاقة ما زالت في بدايتها، يمكن للمرأة أن تطرح الأسئلة بهدوء وتطلب توضيحًا مباشرًا. وإن لم تجد تجاوبًا صادقًا، فعليها أن تدرك أن التجاهل الصامت هو في حد ذاته رسالة. أحيانًا يكون الانسحاب من علاقة غير متزنة هو أعظم أشكال الحب للذات.
الفقرة الثامنة: ختامًا… بين الحقيقة والوهم
الحب الحقيقي لا يتجسد فقط في البدايات الحماسية، بل في الاستمرارية، والتواصل الصادق، والاهتمام المستقر. الرجل الذي يحب بصدق لا ينسحب فجأة، ولا يتجاهل دون سبب، ولا يخلق حيرة دائمة.
التجاهل بعد اهتمام زائد ليس مجرد تغير مزاجي، بل قد يكون علامة تحذير واضحة. وكلما أسرعت المرأة في فهم الرسائل الخفية خلف التصرفات المتقلبة، كلما كانت أكثر قدرة على حماية قلبها من الوقوع في فخ الحب غير المتكافئ.