
دينا زكريا
في العلاقات الإنسانية، لا شيء يؤلم أكثر من شعورك بأنك أصبحت زائدًا عن الحاجة لدى من أعطيته كل ما تستطيع. أن ترى شخصًا أحببته، خففت عنه، ضحيت من أجله، ووهبته الأمان، يتحول أمامك إلى شخص “مستَبيَع” لا يأبه لوجودك أو غيابك. لا يسأل، لا يفتقد، لا يعبأ حتى إن قررت الرحيل.
لكن، هل المشكلة فيك؟ هل أنت من أحببت أكثر مما يجب؟ أم أن العطاء في زمن الجحود أصبح سلاحًا يُستخدم ضد صاحبه؟
الفصل الأول: عندما يتحول العطاء إلى عبء
قد يبدو العطاء في العلاقات صفة محمودة، بل إنه في الأصل لبنة أساسية في تكوين روابط إنسانية متينة، لكن المبالغة فيه دون توازن قد تتحول من نعمة إلى نقمة.
حين يُشبع الطرف الآخر عاطفيًا بشكل زائد عن الحد، قد يفقد القيمة التي تمثلك في حياته، ويشعر دون وعي أن لا شيء جديد يمكن أن يُنتظر منك، فيبدأ تدريجيًا في الاستهانة بك، وبوجودك، وبكل ما تمثله.
هناك مثل شعبي يقول: “اللي يزيد عن حده ينقلب ضده”، وهذه المقولة تنطبق تمامًا على العلاقات التي يتسلل إليها الإفراط في العطاء من طرف واحد.
الفصل الثاني: سيكولوجية التشبّع العاطفي
من الناحية النفسية، الإنسان بطبيعته يميل إلى الانجذاب لما يشعره بالنقص أو الرغبة أو الحاجة، وعندما تُسد كل هذه الاحتياجات من طرف واحد، وبشكل دائم، يفقد الطرف الآخر الشعور بالحافز تجاه العلاقة.
بكلمات أوضح: كلما كنت متاحًا، مطمئنًا، حنونًا، ومتسامحًا على الدوام، بدون حدود أو شروط، كلما شعر الطرف الآخر أنه “امتلكك”، وبالتالي لم يعد هناك دافع للحفاظ عليك.
الأمان الزائد والمثالية المطلقة قد تُشعر بعض الأشخاص – خصوصًا أصحاب الشخصيات النرجسية أو الاعتمادية – بالملل، أو حتى بالاختناق. فهم يتغذّون على التحدي، على الإحساس بأن الطرف الآخر يمكن أن يفقدهم في أي لحظة، وحين تتلاشى هذه الهواجس، يتحولون إلى لا مبالين.
الفصل الثالث: قلة الأصل.. هل هي طبع أم تربية؟
حين يُقابل العطاء بالجفاء، يتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: هل المشكلة في الشخص الذي أعطى أم في الطرف الذي لم يُقدّر؟
هنا تظهر قضية “قلة الأصل” كمفهوم شائع في ثقافتنا العربية، ويُقصد بها الجحود أو التنكر للجميل. وهذه ليست فقط صفة مكتسبة، بل في كثير من الأحيان، تعود إلى التربية والنشأة.
فالشخص الذي نشأ على تقدير المعروف والامتنان لا يمكن أن يُنكر فضل أحد، حتى لو تغيرت مشاعره. أما من تربى على الأنانية أو الاعتماد على الآخرين، فقد يجد في العطاء المستمر فرصة للاستغلال أو الراحة لا للتقدير.
الفصل الرابع: متلازمة “الزيادة عن اللزوم”
العطاء الزائد لا ينتج فقط عن الطيبة الزائدة، بل في كثير من الأحيان يكون نتيجة “احتياج نفسي” عند الطرف المعطي.
فهناك من يعطي كثيرًا لأنه يخاف الخسارة، أو لأنه لا يشعر بقيمته إلا من خلال إرضاء الآخرين. في هذه الحالة، تصبح العلاقة غير متوازنة، ويشعر الطرف الآخر بقوة مفرطة مقابل ضعف الطرف الذي “يُفرط” في الحب.
الزيادة عن اللزوم ليست دائمًا كرماً، أحيانًا تكون استنزافًا للذات، واستنزافًا للطرف الآخر أيضًا، لأنها تضعه تحت ضغط دائم من التوقعات والواجبات غير المعلنة.
الفصل الخامس: كيف نُعيد التوازن لعلاقاتنا؟
التوازن هو مفتاح أي علاقة ناجحة. العطاء مهم، لكن بشرط أن يكون متبادلًا. أن تعطي بقدر ما تأخذ. أن تحب دون أن تذوب. أن تمنح الأمان دون أن تجعل نفسك بلا ثمن.
وإليك بعض الإرشادات للحفاظ على نفسك داخل العلاقات:
-
احتفظ بمساحتك الخاصة: لا تذُب تمامًا في الطرف الآخر، حافظ على حدودك النفسية والعاطفية.
-
تعلّم قول “لا”: ليس كل طلب يجب أن يُلبى، وليس كل تضحية مستحقة.
-
راقب ردود الفعل: إذا لاحظت لا مبالاة متكررة، أو قلة تقدير واضحة، فراجع نفسك وقراراتك.
-
لا تحاول شراء الحب بالعطاء: المحبة لا تُشترى بالأفعال، بل تُبنى بالاحترام والتقدير المتبادل.
-
انسحب حين تشعر أنك أصبحت بلا قيمة: الصمت الطويل، التجاهل، البرود، كلها إشارات يجب ألا تُهمل.
الفصل السادس: لا تهتز ثقتك في نفسك
من المهم أن تعي جيدًا أن ما حدث لا يعني أنك شخص غير كافٍ، بل العكس تمامًا. المشكلة لم تكن يومًا في عطائك، بل فيمن لم يُقدّره.
تذكّر دائمًا: هناك من يستحقك، وهناك من لا يعرف قيمتك إلا بعد فوات الأوان. لا تسمح لأحد أن يجعلك تشك في نفسك، ولا تندم على طيبتك، فقط تعلم أين تضعها، ومع من.
الخاتمة:
في زمن العلاقات السريعة والمتقلبة، أصبح الوفاء قيمة نادرة، وأصبح العطاء الصادق يُنظر إليه على أنه ضعف أو سذاجة. لكن، هذا لا يجب أن يجعلك تتوقف عن كونك إنسانًا جيدًا، فقط كن ذكيًا في توزيع قلبك، لا تسكبه في يدٍ لا تعرف كيف تحمله.
وإن شعرت يومًا أنك “شبعته”، فلا تحزن، فربما كانت رسالتك أن تُعلّمه كيف يكون محبوبًا بحق، لكن ليس بالضرورة أن يكون نصيبه هو أن يحبك بنفس القدر.