محافظات بلدنا

شارع “الباب الأخضر” بالإسكندرية.. حكايات التاريخ المدفون بين العمارة العثمانية والأثر الغائب

كتبت دينا زكريا

شارع يحمل اسماً غريباً وتاريخاً أعجب.. وما تبقى منه باب خشبي شاهق اللون والأثر

في قلب الإسكندرية، المدينة التي تحمل عبق التاريخ وذاكرة البحر المتوسط، تتناثر شوارعها كصفحات من كتاب مفتوح على العصور الماضية، وتظل بعض تلك الشوارع شاهدة على أمجاد، وانحدارات، وتحولات عمرانية وثقافية عميقة. ومن بين هذه الشوارع، يبرز اسم “شارع الباب الأخضر”، الذي يحمل اسماً غريباً ومميزاً في آنٍ واحد، ويخفي وراءه رواية تستحق التوثيق.

ورغم اختفاء الكثير من ملامحه الأصلية، فإن الشارع لا يزال ينبض بالحياة، ويجذب الباحثين عن الجمال المخبأ خلف جدران الزمن، والسياح المتعطشين لاكتشاف جذور المدينة التي جمعت الشرق والغرب في طابعها المعماري والحضاري.

OIP 1 1 OIP 2 1 OIP 3


سبب التسمية.. حين كانت الأعمدة الخضراء مرجعًا بصريًا ومعنويًا

يرجع أصل تسمية شارع “الباب الأخضر” إلى القرن الماضي، نسبة إلى الأعمدة الخضراء التي كانت تزين مسجد “الألف عمود” الشهير، والذي كان قائمًا في المنطقة ذاتها، قبل أن يندثر ويغيب عن معالم العصر الحديث، فلا يبقى منه سوى الاسم الذي ورّث للشارع ذاكرة حجرية. وحسبما يوضح الخبير الأثري محمد سعيد، فإن ما تبقى حاليًا من معالم المسجد التاريخي هو باب خشبي ضخم مطلي باللون الأخضر، ما يرسخ دلالة الاسم في الذاكرة الشعبية.


الشارع ومعماره العثماني.. قاعدة خشبية وشبابيك تهوية مستطيلة

يحمل شارع “الباب الأخضر” طرازًا عمرانيًا فريدًا يروي قصة حقبة عثمانية شهدت ازدهارًا معماريًا واضحًا. فالمنازل المنتشرة على جانبيه بُنيت على قواعد من الخشب المعلق، وتُظهر تصميمات الشبابيك المرتفعة الطولية اهتمامًا كبيرًا بالتهوية والإضاءة الطبيعية، وهي خصائص معمارية تسبق استخدام الخرسانة المسلحة في البناء.

ويُعد هذا النمط المعماري مثالًا حيًا على براعة البنّائين في توظيف البيئة والموارد المحدودة لبناء منازل تحقق الراحة والوظيفة معًا، فضلاً عن لمسة الجمال الكلاسيكي التي ما زالت ظاهرة رغم تقادم الزمن وتهالك البنيان.


مسجد الكلزه.. أثر ديني ومركز تعليمي بطراز مملوكي

من بين العلامات البارزة في شارع “الباب الأخضر”، يبرز مسجد الكلزه، الذي بُني على يد أحد أبناء عائلة “الكلزه” الشهيرة بالإسكندرية، والتي استقرت في الثغر في مطلع القرن العشرين. شُيِّد المسجد عام 1901، وفق نمط يشبه عمارة العصر المملوكي، ما يعكس تأثره بالطرازات الإسلامية التي كانت سائدة في مصر في تلك الحقبة.

وقد ألحق بالمسجد “كُتاب” لتعليم الأطفال القرآن الكريم، و”سبيل” لتوفير مياه الشرب للمارة وسكان المنطقة. كما ضم صهاريج مياه ضخمة، استخدمت لتخزين المياه لاستخدامات الشرب والطهارة، وهو ما يدل على الطابع الخدمي والديني المتكامل الذي كانت تتمتع به المساجد التقليدية.


كوم الناضورة.. من مرصد جمركي إلى موقع عسكري فرنسي

إلى جانب القيمة المعمارية، يحتضن شارع “الباب الأخضر” معلمًا آخر لا يقل أهمية، وهو “كوم الناضورة” — تلة مرتفعة تطل على الميناء، كانت تستخدم كموقع مراقبة في السابق. وقد وُظفت تلك النقطة المرتفعة لمراقبة السفن القادمة إلى الميناء بواسطة موظف يُعرف باسم “الناضورجي”، والذي كان ينقل تحركات السفن إلى إدارة الجمارك لتحصيل الرسوم الجمركية.

وتحمل الوظيفة النظامية لهذا الموقع تفاصيل طريفة، إذ كان يُخصم من راتب “الناضورجي” شهراً كاملاً إذا أغفل دخول سفينة دون التبليغ عنها. وعندما احتلت الحملة الفرنسية المدينة بقيادة نابليون، تحوّل “كوم الناضورة” إلى طابية عسكرية ذات أهمية استراتيجية، وظلت لفترة طويلة بمثابة مرصد حربي.


مسجد المصري وحمام علي المصري.. إرث تجاري وروحي

ومن أبرز الشخصيات التي تركت أثرًا واضحًا في الشارع، التاجر السكندري الشهير “علي المصري”، والذي كان من كبار تجار الخشب في الإسكندرية. قام علي المصري ببناء مسجد بالقرب من وكالته التجارية، وأوقف عليه أوقافًا عدة لضمان استمراريته. وقد صُمم المسجد على طراز الشمع، وتم إلحاق سبيل وكُتاب للتعليم به، إلى جانب تأسيس “حمام المصري”، وهو حمام تقليدي شهير كان يستخدم لأغراض الطهارة والاستشفاء.


وكالة العشماوي ووكالة الذريبي.. عراقة التجارة السكندرية

تحتضن منطقة الباب الأخضر وكالة العشماوي التراثية، التي كانت مركزًا تجاريًا مهمًا في الزمن الماضي. وتجاورها وكالة الذريبي، التي تُعد أول وكالة لتجارة الزيت في أوائل القرن العشرين. وتضم هذه المنطقة أيضًا العديد من الوكالات والمخازن والمصانع التقليدية، خصوصًا في مجال صناعة البسطرمة، إلى جانب منازل تعود إلى الحقبة العثمانية، ما يجعلها أشبه بمتحف مفتوح يروي تطور الحياة التجارية والمعمارية للمدينة.


حاضر يحمل الاسم.. وزوار من أنحاء العالم

رغم اندثار العديد من معالمه القديمة، ما زال “شارع الباب الأخضر” يحتفظ باسمه حتى اليوم، ويستقطب زوارًا وسياحًا، خاصة من الأجانب المهتمين بتاريخ الإسكندرية القديم. لا يأتي هؤلاء فقط للتجوال، بل لتوثيق لحظاتهم عبر صور تذكارية بين الأزقة الضيقة والمباني التاريخية، التي وإن بهت لونها، فإن رائحتها لا تزال تحمل عبق العصور القديمة.


يبقى شارع “الباب الأخضر” شاهدًا على مرحلة مهمة من تاريخ الإسكندرية، يجمع بين الدين والتجارة، والمعمار والهوية. وبينما تواصل المدينة تحديث وجهها المعماري والاقتصادي، فإن الحفاظ على هذا النوع من الشوارع يشكل ضرورة ثقافية وأخلاقية، كي لا تفقد المدينة ملامحها الأصلية وتاريخها الممتد.

فكل حجر في هذا الشارع، وكل نافذة، وكل سبيل، يروي حكاية مدينة كانت وما زالت شاهدة على مرور الحضارات، وصراعات القوى، وتعايش الإنسان مع الزمان والمكان.

50474 IMG 4365 167184 IMG 4366

 

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى