المرأه

“عن الاستغناء الذي علّمني الحياة: حين يكون الرحيل هو الخلاص الوحيد”

دينا زكريا

عند نقطة ما من الانكسار، حين تُكسر القلوب مرة بعد أخرى دون أن تجد من يُجبرها، تتكوّن قناعة داخلية لا تشبه الاستسلام، ولا تشبه اللامبالاة، لكنها أقرب ما تكون إلى النضج المؤلم… إلى ذلك الإدراك العميق بأن الاستغناء بات أنسب وسيلة للمواجهة.

لم يكن هذا القرار وليد لحظة غضب أو ردة فعل عابرة، بل جاء بعد سلسلة طويلة من الخيبات المتراكمة، والإخفاقات العاطفية، ومحاولات مضنية للتشبث بما لا يُراد لنا، وللتمسك بأشخاص لم يبادلونا ذات الحرص، ولا ذات النية.


خذلان تلو آخر… والنتيجة: قلب مثقوب بالخذلان

على مدار سنوات، كنت الشخص الذي يُمسك بالأشياء بقوة، الأشخاص، الأماكن، اللحظات… كل ما مرّ بي حاولت الاحتفاظ به بشتى السبل. عشت حالة من المقاومة المستمرة، خشيت الفقد، قاتلت ضده، ودافعت عن وجود أشياء لم تكن تستحق البقاء.

لكنني في كل مرة كنت الطرف الخاسر. أرهقت نفسي بمحاولات الترميم، وأنا أعيش ما يشبه الاستنزاف الروحي الكامل. أهديت مشاعري بكرم من لا يعرف الشك، وانكسر قلبي أكثر من مرة في سعيٍ لم يكن متكافئًا. اختبرت كل أشكال الخذلان، من أقرب من ظننتهم سندًا، وكنت أنا وحدي من يتحمّل النتيجة، ومن يدفع الثمن مضاعفًا.


في مرآة النفس: هل كنت المخطئ؟

الجزء الأشد قسوة في تلك التجربة لم يكن الخذلان بحد ذاته، بل الطريقة التي تعاملت بها مع نفسي. كنت دائمًا ألقي باللوم على قلبي، على طيبتي، على صمتي، على صبري. راجعت نفسي مرارًا، ما الذي فعلته لينتهي الأمر بهذا الشكل؟ أم ترى ما الذي لم أفعله؟ كنت أفتّش عن الخطأ في ذاتي، كأنني السبب الوحيد لانهيار العلاقات وفقدان الأشخاص.

هذا النوع من جلد الذات، رغم قسوته، كان هو الأقسى من الخذلان ذاته. أن يتحول الإنسان إلى قاضٍ وجلاد في آن، وأن يشعر بالذنب تجاه نفسه، رغم أنه لم يُقصّر يومًا في الحب، ولم يُبخل يومًا على من أحبّ.


حين يصبح التخلّي ضرورة للحفاظ على ما تبقّى

لم يكن قرار الاستغناء نابعًا من القسوة، بل من الرحمة بالنفس. ليس لأنه لم يكن هناك حب، بل لأن الحب وحده لم يكن كافيًا ليستمر أي شيء. أصبحت أفلت يدي، ليس عن ضعف، بل لأنني استنزفت قدرتي على الإمساك.

لم يعد في القلب مكان للمزيد من الخيبات، ولا في الروح طاقة للمزيد من المقاومة. لقد استهلكت كل ما أملك من احتمال، من حلم، من أمل… وجدتني فجأة أمام ضرورة ملحّة: أن أترك كل ما يؤذيني خلفي، أن أتخلّى عن كل ما لا يتمسّك بي، وأن أرحل بصمت دون التفات.


درس الحياة القاسي: الأشياء لا تأتي إلا حين نستغني عنها

ما كان أغرب من ذلك، أنني لاحظت أن كل ما كنت أتمسك به بقوة، يأتي إليّ فقط حين أقرر أن أستغني عنه. كأن الحياة تسخر من حرصي، أو كأنها تريد أن تعلّمني درسًا قاسيًا: “تخلَّ لتُعطى”.

لكنني، في أعماقي، لم أعد راغبًا في الاستمرار بنفس النهج. فقد آذاني التمسك كثيرًا، وخذلتني الأشياء، مرارًا وتكرارًا. الآن أقولها بيقين: سأستغني. وسأرحل. عن كل شيء. عن الجميع. دون ضجيج، ودون رجعة.


دعاء أخير… من قلبٍ موجوع

وفي النهاية، لا أملك سوى أن أرفع يدي إلى السماء، وأهمس من قلبٍ موجوع:

“اللهم عوّض قلبي، واجبر خاطري الذي لم يرَ سوى الخذلان والانكسار طوال العمر، وامنحني من الطمأنينة ما يكفي لأبدأ من جديد، وحدي، ولكن سليمًا هذه المرة…”


نصل في النهاية إلى تلك الحقيقة التي تتجلّى من رحم الألم: ليس كل تمسّك وفاءً، ولا كل تخلٍّ خيانة. أحيانًا، يكون التخلّي أنقى أشكال الحب للنفس، وأسمى صور الرحمة بها. في زمن تُباع فيه المشاعر بثمن بخس، يصبح الاستغناء فنًا من فنون النجاة، بل مفتاحًا للكرامة والسلام الداخلي.

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى