
كتبت / دينا زكريا
في عام 2008، وبعد سنوات من رحيله، أهدانا أبناء الشاعر السوري الكبير نزار قباني آخر ما خطّه قلمه من قصائد، في ديوان حمل عنوانًا شاعريًا يعكس عطر دمشق ودفء ذكريات الطفولة والحنين، هو “أبجدية الياسمين”. هذا الديوان الذي صدر عن “منشورات نزار قباني” في بيروت، ضم بين دفتيه خمس عشرة قصيدة كتبها نزار بخط يده، ما بين عامي 1997 و1998، ولم تكن قد نُشرت من قبل في أي كتاب.
إنها ليست فقط قصائد، بل رسائل أخيرة من شاعر ظلّ يكتب حتى الرمق الأخير، وكأنه أراد أن يُخلّد وجعه، حبه، غربته، وحلمه في سطور لم تُكتب بالحبر فقط، بل بالدم والروح والذاكرة.
ما يُميّز هذه المجموعة، ليس مضمونها الشعري فحسب، بل طريقة تقديمها؛ فقد حرص أبناء نزار، هدباء وزينب وعمر، على أن تُطبع القصائد كما كتبها بخط يده الجميل، في محاولة حميمية لمشاركة جمهوره تفاصيل عملية الكتابة، والمزاج الإبداعي الذي كان يحكم لحظات ميلاد القصيدة لدى أبيهم.
كتب أولاده عنه قائلين:
“الشعر عند نزار قباني هو السفر داخل الإنسان، والشاعر هو ذلك المسافر الأزلي في النفس البشرية. وعلى الرغم من رحيله، يبقى نزار قباني في أذهاننا شاعر اللحظة، شاعر كل الأزمنة وكل الأجيال. من بلد الياسمين جاء، يحمل لنا قصائده الأخيرة، فانهارت حبراً يسيل على ورق، حبراً لقلم خطّ قصائد شاعر لا يشبه إلا كلماته. فكانت أبجديته تلك الحروف وتلك الأسطر لواحد من أكبر الشعراء العرب المعاصرين وواحد من أعظم الآباء.”
بين الوطن والمرأة… الحبر الذي لا ينضب
عناوين القصائد التي ضمها الديوان تشير إلى المزاج النزارّي في سنواته الأخيرة، حيث اختلط فيه الحنين بالغضب، والضعف بالقوة، والعشق بالخذلان، والحنين إلى دمشق بالخوف عليها. بعض القصائد تحمل تأملات حادة في الوطن، مثل “الوطن حول سريري”، وبعضها الآخر يغوص في تفاصيل الحب والمرأة والعلاقة المعقّدة بين الذكرى والرغبة، كما في “في الحب المقارن” و”الحب على نار الحطب”، وغيرها.
وفي قصيدته المدهشة التي يقول فيها:
“عيناك تاريخان من كحلٍ حجازيّ
و من حزنٍ رماديٍّ
و من قلقٍ نسائيٍّ
فكيف يكون يا سيّدتي الرحيلُ
إنّي أفرّ إلى أمامي دائماً…”
نرى صورة المرأة/الوطن، المرأة/القلق، المرأة/القدر. إن العيون هنا ليست مجرد تفاصيل جسدية، بل أرشيف كامل للحب والألم، زمنٌ يتقاطع فيه الجمال مع الخوف، والنشوة مع الغياب.
شاعر اللغة الأولى
وفي قصيدة أخرى من “أبجدية الياسمين”، يكتب نزار بلغة تنتمي إلى ما قبل اللغة، إلى فطرة الشعر حين كان العالم بلا كتب، بلا أقلام، فقط مشاعر تشق طريقها عبر الأصوات:
“أكتبك بلغة الشجر
ولغة المطر، ولغة عصافير الكناري
أكتبك بلغة الإنسان الأول
والعصفور الأول
والمرأة الأولى
التي تبحث عن اسم لأنوثتها
أكتبك على دفاتر دمي
فتزداد ثقافتي
أكتبك قبل أن يكون إيقاع الربابة
وقبل أن تكون الكتب والكتابة…”
بهذا النفس، يؤكد نزار مرةً أخرى أنه ليس مجرد شاعر تقليدي يكتب في دفاتر أنيقة، بل هو كائن لغوي، يخلق عوالمه من رماد الحروف، ومن طين الذاكرة، ومن ندى أنثى لا تشبه إلا الوطن.
“أبجدية الياسمين”: وداع ناعم من شاعر خشن مع الألم
يُعد هذا الديوان، في نظر كثيرين، رسالة الوداع التي لم يُتح له أن يُلقيها على جمهور أحبّه بجنون. قصائد هذا الديوان أكثر هدوءاً، وأقل صخباً من مجموعاته السابقة، لكنها أكثر عمقاً وصدقاً، وفيها نلمح شاعرًا خافتًا يتأمل الحياة من شرفة الغروب.
لم يكن نزار في سنواته الأخيرة شاعر الحب فقط، بل شاعر الوطن الموجوع، والمثقف المهموم، والإنسان الذي سافر كثيرًا في النساء والمدن، لكنه لم يستطع مغادرة دمشق أبدًا، حتى وهو في أقصى المنافي.
نزار يكتبنا… كما نكتبه
“أبجدية الياسمين” ليست فقط قصائد نزار قباني الأخيرة، بل مرآة لوجهه الأخير، وصوته الهادئ بعد عاصفة استمرت عقوداً من الشعر والجدل والغضب والحب والرفض. في هذا الديوان، نرى شاعرًا أقل احتجاجًا، وأكثر تأملاً. يكتبنا كما نكتبه، يسكن فينا كما نسكن في كلماته.
ولعلّ هذا هو سرّ نزار قباني؛ أنه لم يكن يكتب عن المرأة فقط، بل كتب عن الإنسان العربي، عن الحلم، عن الجرح، وعن تلك المسافة الشاسعة بين القلب والواقع.
فـ”أبجدية الياسمين” لم تكن نهاية، بل بداية أخرى لشاعرٍ لا يموت.