
كتبت / دينا زكريا
في كثير من الأحيان نُقحم أنفسنا في علاقات عاطفية نعتقد أن الحب وحده سيكون كافيًا لجعلها تنجح. نمنح قلوبنا بلا حدود، نُقدِّم التضحيات، نتمسك بالمشاعر التي تنبض في داخلنا كأنها الدليل الأوحد على صواب هذا الطريق. لكن الحقيقة التي يتعلمها البعض بعد وقت طويل، وربما بعد ألم كبير، أن الحب لا يُصلح كل شيء. أن هناك لحظات مؤلمة تستدعي قرارًا صعبًا: أن تنسحب من العلاقة رغم أنك ما زلت تحب. ورغم أن هذا القرار يبدو متناقضًا، إلا أنه في كثير من الأحيان يكون القرار الصحيح، بل والضروري من أجل البقاء.
الفصل الأول: طبيعة الحب والتعلق العاطفي
الحب شعور سامٍ، لكنه لا يعني دائمًا الصحة النفسية. هناك حب ينبت في بيئة خصبة من التفاهم والاحترام المتبادل، وهناك حب ينمو وسط صراعات وانكسارات وتكرار للأذى، لكنه يظل حيًا لأسباب متعددة: التعلق، الخوف من الوحدة، الاعتياد، أو حتى الأمل في التغيير.
التعلق العاطفي، خصوصًا عند الأشخاص الحساسين أو من مرّوا بتجارب هجر سابقة، يمكن أن يربطهم بعلاقات غير متوازنة. يشعر الشخص وكأن انسحابه يعني الانكسار الكامل، وكأن العلاقة تمثّل له ملجأ نفسيًا لا يستطيع التخلي عنه. وهنا يختلط الحب الحقيقي مع الاحتياج، ويصبح التمييز بينهما صعبًا.
الفصل الثاني: علامات العلاقة غير الصحية رغم وجود الحب
من أهم المعضلات التي يواجهها العاشق: كيف أعرف أن هذه العلاقة لا تصلح، حتى وإن كنت أحب الطرف الآخر؟ الإجابة تكمن في الملاحظة الدقيقة لما يحدث على الأرض، بعيدًا عن الأماني.
من أبرز العلامات:
-
غياب الاحترام المتبادل: الحب لا يبرر الإهانة، ولا يُغني عن احترام الكرامة.
-
عدم وجود نمو عاطفي مشترك: إذا ظل طرف واحد يُضحّي ويمنح دون مقابل، فهذه علاقة استنزاف لا شراكة.
-
الشعور المستمر بالقلق والتوتر: العلاقة العاطفية لا يجب أن تكون مصدر خوف دائم أو ارتباك مستمر.
-
الوعود الكاذبة والأمل المؤجل: الوعود التي لا تُنفذ تقتل الحب ببطء، وتحول الأمل إلى عبء.
-
تكرار الأذى العاطفي: الاعتذار لا يُبرر التكرار. وإذا كان الطرف الآخر يؤذيك مرارًا، ثم يطلب الصفح، فهذه حلقة مؤذية.
الفصل الثالث: الأسباب التي تدفع لاتخاذ قرار الانسحاب
قرار الانسحاب لا يُتخذ في لحظة، بل يأتي نتيجة تراكمات نفسية وعاطفية، تقود الشخص في النهاية إلى القناعة بأنه لا يمكن الاستمرار. قد تكون هذه الأسباب:
-
حماية الذات: عندما يصبح الاستمرار في العلاقة عبئًا نفسيًا يهدد الاستقرار العقلي.
-
غياب الأمان العاطفي: الشعور بأنك غير محبوب كما أنت، أو أن وجودك دائمًا مشروط بشيء.
-
عدم التوافق القيمي أو السلوكي: مهما كان الحب كبيرًا، فإن اختلاف المبادئ ونمط الحياة قد يُفشل العلاقة.
-
التكرار المؤلم: نفس الأخطاء تتكرر، ونفس الآلام تعود دون تغيير حقيقي.
-
ضياع الهوية الشخصية: في بعض العلاقات، يُذيب أحد الطرفين نفسه في الآخر، ويفقد كيانه.
الفصل الرابع: الصراع الداخلي قبل اتخاذ القرار
الانسحاب من علاقة ما زالت المشاعر فيها قائمة هو صراع نفسي مؤلم. القلب يقول “ابقَ”، والعقل يهمس “ارحل”. تتقاذفك الذكريات، وتعود للرسائل، وتعيد تشغيل مقاطع صوتية ومرئية، تبحث عن عذر لتبقى، حتى لو كان مؤقتًا. لكنه في لحظة صدق، يظهر السؤال بوضوح: هل هذه العلاقة تُشبهني؟ هل تجعلني أفضل؟ أم أنها تستهلك روحي يومًا بعد يوم؟
هذا الصراع قد يستمر لأسابيع أو شهور، وقد يظل الشخص ينسحب ثم يعود مرارًا، لكنه مع الوقت يدرك أن العودة تُعيد الوجع من البداية، وأن الخسارة الوحيدة ليست في الفراق، بل في البقاء في علاقة تُضعفك.
الفصل الخامس: لحظة القرار وما بعدها
اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يرحل رغم وجود المشاعر هي لحظة وعي وجرأة. هي إعلان داخلي بأن الكرامة والنفسية السليمة لها الأولوية على الحب غير المتوازن.
لكن هذا القرار لا يمر بسهولة. في البداية، هناك:
-
ألم الانفصال: فراغ عاطفي، وندم أحيانًا.
-
الحنين: يتجلى في أوقات غير متوقعة، ويختبر قوة القرار.
-
اللوم الذاتي: “هل كنت قاسيًا؟ هل استعجلت؟”
-
الخوف من الوحدة: الذي يختبر صمود الإنسان أمام مشاعر النقص.
ومع الوقت، تبدأ الأمور في التوازن. ويشعر الإنسان أنه استعاد نفسه. يبدأ في تذوق المعاني البسيطة للحياة، ويكتشف أنه كان مغمورًا في علاقة منعته من رؤية ذاته.
الفصل السادس: إعادة بناء الذات بعد الانسحاب
بعد الخروج من علاقة مؤذية أو مرهقة، من الضروري إعادة ترتيب الأولويات، ومداواة الجراح:
-
العناية بالنفس: جسديًا ونفسيًا.
-
العودة للهوايات والعلاقات الاجتماعية: لاستعادة التوازن.
-
طلب الدعم النفسي: إذا استدعى الأمر.
-
الكتابة أو التعبير عن المشاعر: وسيلة علاجية فعالة.
-
التعلم من التجربة: تحليل ما حدث لفهم الأخطاء وتفاديها مستقبلاً.
الفصل السابع: هل الحب وحده يكفي؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا المقال: هل الحب وحده يكفي؟ والإجابة الصريحة: لا.
الحب مهم، لكنه ليس العامل الوحيد. لا يمكن للحب أن يستمر دون احترام، دون تفاهم، دون التزام، دون مساحة آمنة للطرفين. الحب وحده دون تلك الأعمدة يُصبح عاطفة جميلة في سياق مأساوي.
الفصل الثامن: متى نقرر البقاء رغم الصعوبات؟
في المقابل، ليس كل صعوبة تعني انسحابًا. هناك علاقات تستحق أن تُبذل فيها المحاولات، متى ما كان هناك:
-
نية حقيقية للإصلاح من الطرفين.
-
اعتراف بالأخطاء.
-
استعداد لتقديم تنازلات عادلة.
-
احترام متبادل.
-
مشاعر حقيقية لا تُستخدم كذريعة للسيطرة أو التلاعب.
قرار الانسحاب هو شجاعة قلب
أن تحب شخصًا وتختار أن تتركه لأن العلاقة تستهلكك، هذه شجاعة. هذه حكمة القلب عندما يتّحد مع العقل. ليس كل من يرحل جاحد، وليس كل من بقي مُخلص. هناك من يرحل لأنه يُحب نفسه بما يكفي لئلا يدفنها داخل علاقة تؤذيه. وهناك من ينسحب لأنه يُحب الطرف الآخر، لكن لا يستطيع أن يُنقذ العلاقة وحده.
فالعلاقات لا تنجح بالحب فقط، بل تنجح بالصدق، والاحترام، والمشاركة. وإن فُقِد أحد هذه العناصر، فحتى الحب الأعمق لن يكون كافيًا للبقاء.