
دينا زكريا
في لحظة ما من عمر القلب، يُقدم الإنسان على المغامرة الأشد خطورة في حياته: أن يمنح الحب كلّه. يُشبه الأمر أن تضع كنزك الأثمن بين يدي من لا يدرك قيمته، أو أن تراهن على جواد يخفي العرج خلف خطواته الواثقة. إنه رهان القلب على من لا يعرف العطاء، على من يسكنهم الجفاء من كل النواحي.
يعزّ على الإنسان أن يعترف لنفسه بأنه أحبّ من لا يستحق. ليس لأن الحب خطأ، بل لأن من منح لهم الحب تعاملوا معه كشيء عابر، كجملة اعتيادية في رواية لا تهمهم تفاصيلها. فكل كلمة، وكل تصرف، وكل مساحة من الروح كانت مكرسة لهم، لكن المقابل كان صمتًا، أو برودًا، أو حتى إنكارًا لوجود هذا الحب أصلًا.
الرهان العاطفي: كيف ولماذا؟
الرغبة في الحب عميقة، متأصلة في الذات الإنسانية، تبدأ من الحاجة للأمان وتتشكل في هيئة مشاعر وانجذاب وانبهار. أحيانًا، لا نحب الأشخاص لكونهم جديرين بالحب، بل لأننا بحاجة لأن نحب. ومن هنا يبدأ الرهان. نراهم بمنظار الحلم، نمنحهم الأعذار، ونبرر غيابهم، ونزرع الأمل في أرض قاحلة على أمل أن تُزهر يومًا.
يُراهن القلب حين يرى في الطرف الآخر بصيصًا من احتمال، حتى لو كان ذلك الاحتمال هشًا. ربما ابتسامة، نظرة، لحظة اهتمام عابرة، تُترجم في داخلنا وكأنها وعد صامت. لكن الحقيقة أن من لا يعرف الحب لا يفي بوعوده، حتى تلك التي لم يقلها صراحة.
الجفاء: ذلك السلوك الذي ينهك الأرواح
الجفاء ليس صفة عابرة، بل نمط حياة عند البعض. هناك من تعوّد أن يأخذ دون أن يعطي، أن يتلقى الحب وكأنه استحقاق لا يقابله التزام. الجفاء لا يعني فقط قلة الكلام أو انعدام الحنان، بل يعني في جوهره خذلان متكرر، برود في لحظة احتياج، تهميش في موقف كان من المفترض أن يكونوا فيه سندًا.
والأصعب من الجفاء الصريح، هو الجفاء المقنّع: حين يتواجد الطرف الآخر بجسدٍ فقط، بينما روحه غائبة، واهتمامه موزّع، وصمته يُفسَّر أكثر من كلماته.
منح الحب كله: تضحية أم سذاجة؟
حين تمنح حبك كله، فأنت لا تُخطئ. الحب في ذاته ليس ذنبًا. لكن المشكلة تكمن في “مَن” نعطيهم هذا الحب. كثيرون ممن يعيشون خيبات الحب، يجلدون أنفسهم لاحقًا، ويتساءلون: “كيف لم أكتشف الحقيقة منذ البداية؟” أو “كيف قبلتُ بهذا الإهمال كل تلك المدة؟” لكن الحقيقة أن المحب لا يرى الحقيقة فورًا، بل يرى الصورة التي رسمها في خياله.
أحيانًا، لا نحب الشخص ذاته، بل نحب ما تمنيناه أن يكون عليه. وهنا الفرق الجوهري: نحن لا نُخدع فقط، بل نُقنع أنفسنا بأنهم سيتغيرون، سيلاحظون قيمتنا، سيفهمون مشاعرنا. ولكن هل يحدث هذا فعلاً؟ نادرًا.
الخذلان الصامت: حين لا يقولون شيئًا ويفعلون كل شيء يؤلم
لا يُقال الخذلان دائمًا بالكلمات، بل يُمارس في التفاصيل الصغيرة: نظرة لامبالية، غياب دون تبرير، صمت طويل في لحظة احتياج، تجاهل مشاعر متراكمة. وحين يُواجهون، يُبرّرون الأمر بكلمات باردة: “أنت تبالغ”، “أنا مشغول”، “أنت حساس جدًا”.
لكن القلب يعرف. القلب الذي منح دون حساب، يستشعر الخذلان دون إعلان.
من التجربة إلى النضج العاطفي: ما بعد الانكسار
الخروج من هذه التجربة ليس سهلًا. الجرح العاطفي لا يُرى، لكنه يُخلف ندوبًا عميقة. ومع ذلك، فإن كل خيبة تحمل درسًا، وكل ألم يحمل حكمة، وكل نهاية تحمل بداية جديدة. فربما كانت تلك التجربة مفتاحًا لفهم الذات، لإعادة ترتيب أولويات القلب، وللتعرف على حدود ما يمكن تقديمه لمن لا يستحق.
النضج العاطفي لا يعني أن نتوقف عن الحب، بل أن نحبه بوعي. أن ندرك أن الحب لا يُمنح إلا لمن يُقدّره، أن نتعلم أن نميز بين من يبادلوننا الشعور، ومن يستهلكوننا عاطفيًا. أن نتوقف عن الرهان الخاسر، ونراهن على أنفسنا أولًا.
يعزّ على الإنسان أن يتذكر كم منحه، وكم خسر، لكن الأهم أن يدرك أن قلبه لم يكن مخطئًا في الحب، بل في الاختيار. وما الحب إلا صفاء نية، ونقاء روح. أما من يسكنهم الجفاء، فلا لوم عليهم، فهم لا يعرفون كيف يكون الحب، ولا كيف يُردّ.
لكننا نحن، نعرف. وعلينا أن نحافظ على هذا القلب الذي ما زال يقدر الحب، رغم كل ما مرّ به.