
كتبت / دينا زكريا
الحب ليس كلمة تُقال عابرًا في لحظة ضعف أو انجذاب مؤقت، بل هو وعد.. والوعد دين، والدين لا يسدّه إلا من يملك رجولة كافية لتحمل مسؤوليته. ومع ذلك، كثيرًا ما نجد أن الإنسان قد يتحول إلى سبب الجرح الأكبر لأخيه الإنسان؛ ليس حين يكرهه، بل حين يدخل حياته محمّلًا بالحب والاقتراب، ثم ينسحب فجأة وكأن شيئًا لم يكن.
هذه المفارقة المؤلمة تعيشها أرواح كثيرة، حين تمنح ثقتها وصدقها وحبها، لتكتشف أن ما ظنّته “مكانًا آمنًا” ليس إلا ساحة معركة جديدة، تُخاض فيها جولات الخيبة، وتُسكب فيها دموع لا تعرف سوى معنى الفقد.
الكاتب الذي يروي هذه التجربة يقول بمرارة: “أنا جربت كل أنواع الدموع إلا دموع الفرحة”. جملة تختصر وجعًا إنسانيًا عميقًا، فدموع الحزن والخيانة والخذلان قد صارت مألوفة، أما دموع الفرح فبقيت حلمًا مؤجلًا. هنا يظهر الفرق بين من يتعامل مع الحب ككلمة سهلة، ومن يراه مسؤولية ثقيلة.
كلمة “بحبك” بالنسبة للبعض مجرد عادة تُقال دون تفكير، أما عند أصحاب القلوب الصافية فهي “صدق وثقة”، ليست سهلة ولا عابرة، بل عقد داخلي يُبنى عليه الأمان والاطمئنان. ولذلك كان الوداع أشبه بصفعة، لا على الحاضر فقط، بل على الماضي بكل تفاصيله.
حين ودّعها، لم تتشبث، لم تترجّ، بل قالت له بحدة وكرامة: “اشطا.. وخد الذكريات العرة دي معاك”. جملة قاسية في ظاهرها، لكنها في العمق محاولة للدفاع عن كرامة لم يعد أمامها سوى خيار واحد: أن تغلق الأبواب وتترك وراءها كل من قرر الرحيل.
لكن الوجع الحقيقي لا يزول بسهولة، فـ”كلهم مرّوا من أمامي، إلا أنت مررتلي عيشتي”. هنا تكمن المأساة، أن الأثر لا يزول بالرحيل، وأن الغياب أحيانًا يصبح حاضرًا أكثر من الوجود.
المعضلة الكبرى في العلاقات الإنسانية اليوم ليست فقط في الفراق، بل في غياب المسؤولية العاطفية. أن تمنح إنسانًا حبك وثقتك وحنانك، ثم تكتشف أن ما اعتبرته سندًا لم يكن سوى ظلٍ زائل، تلك خيانة تتجاوز فعل الرحيل إلى قتل الطمأنينة ذاتها.
وفي زمن العلاقات السريعة والهشة، تصبح هذه التجارب شائعة، لكنها لا تفقد قسوتها. لأن كل قلب يعتقد أنه سيكون الاستثناء، وأن الحب الذي يعيشه سيختلف، حتى يُفاجأ بأن الخيانة صارت القاعدة لا الاستثناء.
إن الحنان الذي يُخسر لا يُعوَّض، ومن يظن أن بوسعه الرحيل دون أثر يخطئ الحساب. فهناك مشاعر حين تُمنح مرة، لا تتكرر، وحين تُكسر، لا تعود كما كانت.
الحب، إذا لم يكن أمانًا، فإنه يتحول إلى ساحة حرب داخلية، يفقد فيها الإنسان ثقته، لا في الآخر فقط، بل في نفسه أيضًا. وهنا تأتي المسؤولية: أن ندرك أن دخول حياة إنسان ليس خطوة عابرة، بل التزامًا إنسانيًا قبل أن يكون عاطفيًا.
قد يكون الوداع أحيانًا حتميًا، لكن طريقة الوداع تصنع الفارق كله. هناك وداع يترك أثرًا طيبًا رغم الألم، وهناك وداع لا يخلّف سوى مرارة وذكريات “عرة” تظل تلاحق صاحبها.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: متى يصبح الحب وعدًا يُصان، لا مجرد كلمة تُقال؟ ومتى ندرك أن “شريك الحياة” ليس خصمًا جديدًا في معاركنا، بل يجب أن يكون الملاذ الآمن وسط ضجيج الدنيا؟