
دينا زكريا
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتغيّر فيه أدوار الجنسين داخل العلاقات العاطفية، يبقى هناك خيط دقيق يربط بين الموروث الثقافي والتوقعات النفسية: مفهوم الرجولة. كثيرًا ما تُفاجأ النساء بردود أفعال غير متوقعة من شركائهن حين يُطلب منهن شيء بسيط — ربما هدية، مساعدة، أو حتى مبلغ مالي متواضع — رغم أنهن قادرات على تحقيق هذا الطلب بأنفسهن.
يظهر بعض الرجال استياءً لحظيًّا عند سماع عبارات مثل: “هاتلي كذا” أو “ممكن فلوس؟”، فتتصاعد في رؤوسهم أصوات تُذكّرهم بمخاوفهم من الاستغلال أو تُحرّك فيهم شعورًا بأنهم يُعاملون كبنك متحرّك. لكن الحقيقة أعمق بكثير من هذا التصوّر السطحي، وتتعلق بمفهوم أشمل للرعاية العاطفية وديناميكية الأدوار في العلاقة.
ليست قيمة الشيء… بل رمزية الموقف
عندما تطلب امرأة شيئًا من شريكها، فهي لا تختبر حجم رصيده في البنك، بل تختبر مقدار حضوره في حياتها. بالنسبة للكثير من النساء، الطلب لا يُقاس بقيمته المادية، بل بما يُمثله من دلالة وجدانية: هل هو مُبادر؟ هل يشعر بمسؤوليته تجاهها؟ هل يرى نفسه طرفًا يُعتمد عليه؟
فالمرأة، خاصة تلك المستقلة ماديًّا، التي تعمل وتجني مالها، لا تطلب لأنها بحاجة بحتة، بل لأنها تبحث عن شعور الأمان، وعن مَن يشاركها الأعباء النفسية والعاطفية قبل أن تكون مادية.
والرجل الذي يُظهر انزعاجًا أو يُقابل الطلب بالتذمر، يُعبّر لا شعوريًّا عن حالة اضطراب داخلي في فهمه لهويته الذكورية. فهو يرى في العطاء عبئًا، بينما تراه المرأة وسيلة للتقارب والإثبات.
الذكورة الصحية تبدأ من الداخل
الرجولة، أو ما يُعرف بـ“الطاقة الذكورية المتزنة“، لا تُقاس بحجم المال ولا بعدد الممتلكات، بل بمدى المبادرة، والقدرة على الاحتواء، والقدرة على إظهار الرعاية بطريقة لا تُشعر الطرف الآخر أنه مطالب بالتبرير.
الرجل الذي تتوازن طاقته الذكورية هو من يبادر دون أن يُطلب، هو الذي يحضر بهدية بسيطة دون مناسبة، ويقول بضحكة: “شوفت دي؟ افتكرتك وإنتي بتزعقي امبارح!”… مثل هذه اللفتات الصغيرة تُعبّر عن رجولة صافية غير مرهونة بالاستعراض، بل نابعة من شعور بالمسؤولية والانتباه.
عندما تنقلب الأدوار: الطاقة الأنثوية في أجساد رجالية
في المقابل، يُظهر بعض الرجال نمطًا مختلفًا من التفاعل. هو الرجل الذي يحسب الفاتورة حرفًا حرفًا، ويطلب أن يُقسّم الحساب “نُصين” بينما يُعدّل نظارته ويُراجع أسعار كل طلب على الطاولة. هذا الرجل لا يُعاني من قلة المال بالضرورة، بل من أزمة طاقة: طاقته الذكورية ضعيفة أو معطوبة، ما يدفعه إلى التحصّن وراء الحذر المادي والتردد العاطفي.
المرأة قد لا تُفصح دائمًا، لكنها تُدرك ذلك جيدًا. الرجل الذي يتهرب من المبادرات، ويتعامل مع العلاقة بمفهوم المقايضة وليس العطاء، لا يترك انطباعًا جيدًا، ولا يُشعر شريكته بالأمان، حتى لو كان غنيًا.
متى نُعيد تعريف “المسؤولية” داخل العلاقات؟
السؤال الذي لا بد أن يُطرح: هل مفهوم المسؤولية اليوم ما زال كما كان عليه في الماضي؟ وهل ما زال مطلوبًا من الرجل أن “يصرف” على شريكته، حتى لو كانت تعمل وتكسب دخلها؟
الإجابة ليست نعم ولا لا. بل تتعلق بالسياق، وبالاتفاق بين الطرفين، وبالطاقة النفسية المتبادلة. لكن المؤكد أن المرأة، وإن كانت قادرة على الاستقلال، لا تزال ترغب في الشعور بأن هناك مَن يتحمل معها، لا مَن يتركها وحدها.
هي لا تريد من شريكها أن يكون بنكًا، بل أن يكون سندًا. والفرق شاسع بين رجل يُخرج محفظته لأنه يشعر بالواجب، ورجل يُخرِجها لأنه يشعر بالمحبة والدعم.
ما قبل الدخول في العلاقة: هل شحنت طاقتك الذكورية؟
قبل أن تُفكّر في الدخول في علاقة عاطفية، اسأل نفسك: هل أنا جاهز لأكون حاضنًا؟ هل أمتلك طاقة مبادرة، دعم، وكرم عاطفي؟ أم أنني لا أزال أبحث عمّن “يُكملني” أو “يشحنني”؟
العلاقات ليست محطة شحن مجانية. والمرأة ليست كابل USB-C يعيد إليك توازنك الداخلي. بل هي كائن مستقل، يبحث عن علاقة متبادلة، لا علاقة علاجية.
الرجولة لا تعني أن تُقدّم دائمًا أشياء ثمينة، بل أن تُقدّم نفسك كقيمة، بحضورك، وباحتوائك، وبمبادرتك. كلما كنت ثابتًا، كانت هي أكثر اطمئنانًا. وكلما كنت متوازنًا، كانت هي أكثر استعدادًا للعطاء.