
كتبت / دينا زكريا
تحلّ اليوم ذكرى ميلاد واحد من أعظم شعراء العامية في العالم العربي، الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، الذي ولد في الحادي عشر من أبريل عام 1938 بقرية أبنود التابعة لمحافظة قنا في صعيد مصر. لم تكن نشأته عادية، بل كانت بيئة مولده وتربيته بمثابة الأرض الخصبة التي زرعت فيه بذور الإبداع، والتي أثمرت عن رحلة شعرية وإنسانية استثنائية امتدت لعقود، وخلّدت اسمه في الوجدان الشعبي المصري والعربي.
وُلد الأبنودي لأب كان يعمل مأذوناً شرعياً، وهو الشيخ محمود الأبنودي، ذلك الرجل الذي ترك أثراً دينياً وثقافياً في بيت الأبنودي، ولكنه لم يكن حاجزاً أمام انطلاق روح عبد الرحمن نحو عوالم أكثر رحابة، في اللغة والقصيدة والحلم. انتقلت الأسرة إلى مدينة قنا، وتحديداً إلى شارع بني علي، حيث بدأت ملامح الشاعر تتشكل، وحيث سمع الأبنودي للمرة الأولى أصداء “السيرة الهلالية”، تلك الملحمة الشعبية التي أسرته منذ صغره، وباتت لاحقاً محوراً رئيسياً في مشروعه الأدبي.
الطفولة.. مهد القصيدة الأولى
يحكي الأبنودي عن طفولته بعمق وحنين، كما ورد في كتاب “مذكرات عبد الرحمن الأبنودي في طفولته وصباه” للكاتب إبراهيم عبد العزيز، حيث يقول:
“مازال عالم الطفولة هو العالم الغني السخي الذي ألجأ إليه دائمًا حين تضيق بي التجارب، ثم إنه ما زالت حتى الآن معظم مفردات الطفولة في أبنود أكتب بها، وهي التي أورثتني إياها وملأت بها حجري وجيبي، فأبنود هي تجربتي الثرية، هناك عرفت معاناة الفلاحين… وتظل أبنود هي عمود الخيمة في تجربتي الشعرية والإنسانية”.
بهذا التصريح، يكشف الأبنودي عن جوهر علاقته العاطفية بالشعر، فقصيدته لم تكن مجرد كلمات موزونة أو غنائية، بل كانت شهادة حية على ما عايشه في صعيد مصر من فقر، وبساطة، ومعاناة، وأحلام متكسرة على حواف الطين.
السيرة الهلالية.. ملحمة متجددة في صوت الأبنودي
من أبرز ما قدمه الأبنودي للأدب الشعبي هو جمعه وروايته للسيرة الهلالية، تلك الملحمة العربية الكبرى التي تتناقلها الألسن في قرى ونجوع مصر، وقد أفنى سنوات طويلة في توثيقها وتسجيلها من أفواه الرواة في صعيد مصر. لم يكتبها الأبنودي كأديب فحسب، بل عاشها كجزء من وعيه الثقافي والوجداني، وبهذا أسهم في الحفاظ على تراث ضخم كان مهدداً بالضياع.
شاعر العامية الأول.. ورفيق كبار المطربين
ربما لا توجد ذاكرة موسيقية في العالم العربي تخلو من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، فقد كتب للمطربين الأهم في مصر والعالم العربي، وعلى رأسهم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي غنى من كلمات الأبنودي أروع ما قُدّم من أغنيات وطنية وعاطفية، منها: عدى النهار، المسيح، أحلف بسماها وبترابها، ابنك يقول لك يا بطل، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب، اضرب اضرب، إنذار، بالدم، بركان الغضب، راية العرب، الفنارة، يا بلدنا لا تنامي، صباح الخير يا سينا، الهوا هوايا، وغيرها من الأغاني التي اقترنت في ذاكرة المصريين بمراحل مفصلية من تاريخ الوطن.
كما كتب الأبنودي لكبار نجوم الطرب في العالم العربي، فغنى له محمد رشدي: تحت الشجر يا وهيبة، عدوية، وسع للنور، عرباوي. وغنت له فايزة أحمد: يمّا يا هوايا يمّا، مال علي مال، قاعد معاي. أما نجاة الصغيرة، فقد قدمت من كلماته: عيون القلب، قصص الحب الجميلة. وشادية غنّت له: آه يا اسمراني اللون، قاللي الوداع، وأغاني فيلم شيء من الخوف.
كما تعاون مع صباح في أغنية ساعات ساعات، ومع وردة الجزائرية في: طبعاً أحباب، قبل النهاردة، ومع محمد قنديل في: شباكين على النيل عنيكي. ولم تكن الأجيال الجديدة بعيدة عن قلمه، فقد غنّى له محمد منير مجموعة من أجمل أغانيه، مثل: شوكولاتة، كل الحاجات بتفكرني، من حبك مش بريء، برة الشبابيك، الليلة ديا، يونس، عزيزة، قلبي ما يشبهنيش، يا حمام، يا رمان.
وفي أغنيات ماجدة الرومي، ترك الأبنودي بصمته الراقية في أغنيتين من أهم ما غنت: جايي من بيروت، بهواكي يا مصر، وهما شهادتان فنية على عمق التزامه القومي والإنساني.
الأبنودي.. صوت الفلاح وهمّ الوطن
لم يكن الأبنودي شاعر حب فقط، بل كان شاعر وطن ومقاومة وصوتاً للفلاحين والمهمشين، ورافداً رئيسياً للقصيدة الوطنية الصادقة، التي تنبع من الألم والمعاناة، لا من الشعارات الجوفاء. حمل هم الوطن في قصائده، وكتب لمصر في نكستها ونهضتها، في نضالها وانتصارها، في حزنها وفرحها.
ومن خلال كلماته، استطاع أن يوحد المصريين خلف قصيدة صادقة تحاكي وجدانهم، وقدراتهم، وآمالهم، وظلت أعماله تتجدد مع كل لحظة، وتستدعى في كل محنة تمر بها البلاد.
“أيامي الحلوة”.. سيرة الذات وسيرة الوطن
ومن أهم ما كتب الأبنودي في النثر، كتاب أيامي الحلوة، وهو سيرة ذاتية صدرت على هيئة حلقات في ملحق “أيامنا الحلوة” بجريدة الأهرام، ثم جُمعت في ثلاثة أجزاء لتشكل وثيقة أدبية وإنسانية نادرة. يحكي فيها الأبنودي عن تفاصيل حياته في الصعيد، عن الطفولة، عن الأب والأم، عن الجيران، عن الطين والماء والقمح والحصاد، عن الفقر والفرح والحكايات التي سمعها في الدروب.
إرث لا يغيب
في ذكرى ميلاده، لا نرثي الأبنودي، بل نحتفل به، لأنه لا يزال حاضراً بكلماته، بصوته، بروحه التي تتجلى في كل بيت شعري كتبه، وكل أغنية خلدها، وكل حكاية رواها عن وطنه وأهله.
عبد الرحمن الأبنودي لم يكن مجرد شاعر، بل كان مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها، ترك تراثاً أدبياً وإنسانياً لا يُقدّر بثمن، واستحق عن جدارة أن يُطلق عليه لقب “الخال”، الخال الذي احتضن وجدان المصريين بكلماته، فبقي حيًّا رغم الغياب.