
دينا زكريا
لم يكن سيف الدولة الحمداني أميرًا عاديًا في بلاط الملوك، بل كان من أكثر حكام عصره شغفًا بالشعر وعشقًا للأدب، حتى قيل إنه كان ينظم الشعر مثل كثيرين من أفراد أسرته، كأبي فراس الحمداني وأبي العشائر. غير أن الشاعر الذي ملك قلبه ونال حظوة خاصة في مجلسه كان بلا منازع، أبو الطيب المتنبي.
شاعر لا يرضى بالمألوف
عشر سنوات قضاها المتنبي في كنف سيف الدولة (337هـ – 346هـ)، لكنها لم تكن عشر سنوات عادية. فمنذ بداية العلاقة، اشترط المتنبي على الأمير الحمداني أن يُعامله معاملة مختلفة عن باقي الشعراء، ورفض تقاليد الوقوف أثناء إلقاء الشعر أو تقبيل الأرض كما كان يفعل غيره، قائلاً إنه “ملك الشعراء”، وبالتالي من حقه أن يُنشد جالسًا أمام “ملك الناس”. وقد قبِل سيف الدولة هذا الشرط، وخصّه دون غيره بجوائز ومال واهتمام بالغ.
المدح.. قصائد تعكس الهيبة والذوق
امتدح المتنبي سيف الدولة في العديد من القصائد، فلم تكن العلاقة مجرد صحبة بلا أدب، بل جسّدها شعريًا وخلّدها في أبيات تقطر فخرًا وإعجابًا.
في إحدى قصائده، وصف المتنبي ذوق سيف الدولة الرفيع، وحبه للفنون والتصوير، فقال في وصف خيمته:
“عليها رياضٌ لم تحكِها سحابة
وأغصانُ دوحٍ لم تغنِ حمائمُهُ”
وتابع وصف المشهد بما يعكس البذخ والهيبة، وحتى صورة العدو الرومي بدت في موضع ضعف أمام جلال الخيمة ومكانة صاحبها.
وفي موضع آخر، قال المتنبي واصفًا شجاعة سيف الدولة:
“الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ
هوَ أولٌ، وهيَ المحلُّ الثاني”
ليؤكد أن الأمير جمع الحكمة إلى جانب البأس، وهو ما تجلّى في حضوره إحدى حملات سيف الدولة العسكرية، فقال:
“في جَحْفَلٍ سَتَرَ العُيونَ غُبارُهُ
فَكَأنَّما يُبصِرنَ بالآذانِ”
مدح يخالطه فخر الذات
لكن المتنبي، الذي أحبّ سيف الدولة وأخلص له، لم يكن ليكبح ذاته عن مدح نفسه، وهذا ما زرع الشوك في طريقه. ففي الوقت الذي كان يمدح فيه الأمير، كان لا يتوانى عن تعظيم شأنه الشخصي. ومن أشهر الأبيات التي ساهمت في تعكير صفو العلاقة بينه وبين سيف الدولة:
“أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من بهِ صممُ”
وفي أخرى:
“الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ”
هذه النبرة التي تمزج بين الفخر الشخصي والمدح، أغضبت بعض رجال الحاشية المحيطين بسيف الدولة، فاستغلوا الأمر، وعلى رأسهم النحوي “خالويه” وأبو فراس الحمداني، وأوغروا صدر الأمير ضد الشاعر.
العتاب الأخير.. قصيدة فاصلة
حين شعر المتنبي أن مكانته تهتز في مجلس الأمير، كتب قصيدته الشهيرة “وا حر قلباه”، التي جمعت بين ألم العتاب وحنين الود، وفيها قال:
“وا حرَّ قلباهُ ممَّن قلبُهُ شَبِمُ
ومَن بجِسمي وحالي عندهُ سقمُ
مالي أُكَتِّمُ حبًّا قد بَرى جسدي
وتدّعي حبَّ سيفِ الدولةِ الأمَمُ”
وفيها أيضًا انتقد سيف الدولة مباشرة:
“يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي
فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ”
إلا أن المتنبي لم يتخلّ عن عادته في مدح ذاته، حتى في لحظة العتاب، فختم القصيدة بأبيات عادت لتُظهِر تفوقه على الجميع:
“سيعلمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مجلسُنا
بأنني خيرُ من تسعى بهِ قدمُ”
وعلى ما يبدو، كانت هذه القصيدة الأخيرة بمثابة وداع غير معلن، إذ سرعان ما غادر المتنبي بلاط سيف الدولة بعد أن شعر أن الفجوة بينهما قد اتسعت، ولا مجال للصلح أو العودة.
رحيل بلا تصالح
ختم المتنبي قصيدته بمشاعر مختلطة من الحزن والخذلان، قائلًا:
“يا مَن يعزّ علينا أن نُفارقهم
وِجدانُنا كل شيءٍ بعدكم عدمُ”
وقد تُرجم هذا البيت واقعًا، إذ انتهت العلاقة بين الشاعر الكبير وأمير حلب دون مصافحة أخيرة، في مشهد يجسّد قسوة المصالح، وغدر الحاشية، ومرارة الكبرياء
				
					



