حوادث

4 متوفين ومصاب فى حالة حرجة.. تفاصيل سقوط عمال فى خزان صرف صحى بالشرقية

كتبت / دينا زكريا

في صباح بدا عاديًا، تحرك عدد من العمال في محافظة الشرقية نحو موقع عملهم في مشروع صرف صحي، لا يحملون في قلوبهم سوى أمل في لقمة عيشٍ حلال، ولا يعرفون أن هذا اليوم سيكون الفصل الأخير في حياتهم، وأنه سيُدوَّن في سجل الكوارث التي لا تحدث إلا حين يتقاطع الإهمال مع الفقر والقدر.

كانت الشمس لم ترتفع بعد في السماء حين وصل العمال إلى موقع الخزان، الذي بدا للوهلة الأولى عاديًا. ولكن خلف مظهره الخارجي كانت تختبئ كارثة مهيبة تنتظرهم في صمت. ما حدث بعد ذلك لم يكن مجرد حادث عمل، بل كان مأساة إنسانية مكتملة الأركان، هزت مشاعر الأهالي وأثارت الغضب الشعبي، وطرحت من جديد تساؤلات مريرة عن قيمة الإنسان في مجتمع ما زال بعض مسؤوليه يختزلون الأرواح في أرقام.


المشهد الأول: لحظة الانهيار

في ذلك الصباح المشؤوم، كان من المفترض أن يجري العمال عملية تنظيف روتينية داخل خزان الصرف الصحي، وهي عملية معروفة بخطورتها، تتطلب معدات أمان صارمة، وأدوات تنفس خاصة، وإشرافًا فنيًا دقيقًا. ولكن، وكما يحدث كثيرًا في الأعمال الميدانية غير المنظمة، لم تكن هذه الشروط متوفرة بالكامل.

دخل أحد العمال إلى الخزان أولًا، وما هي إلا لحظات حتى بدأ يشعر بالاختناق. صرخ مستنجدًا، فسارع زملاؤه الثلاثة للدخول واحدًا تلو الآخر في محاولة لإنقاذه. وكأننا أمام مشهد بطولي بائس، يدفع فيه الأبرياء حياتهم ثمنًا لروح الفريق والولاء الإنساني. ما لم يكن يعرفه أحد منهم أن الهواء داخل الخزان كان مشبعًا بغازات سامة قاتلة، وعلى رأسها غاز كبريتيد الهيدروجين، الذي لا يُرى ولا يُشم بسهولة، ولكنه قاتل صامت يضرب الجهاز العصبي خلال ثوانٍ.

وبعد دقائق معدودة، خيّم الصمت على المكان. أربعة عمال لفظوا أنفاسهم الأخيرة داخل الخزان، والخامس أُخرج وهو في حالة حرجة، يصارع الموت، وحوله أهالي يصرخون وعيونهم تتوسل السماء وتبحث عن أجوبة.


المشهد الثاني: الأهالي والصدمة

ما أن انتشرت أنباء الحادث في قرى الشرقية، حتى انقلبت الأجواء. امتلأت الطرق المؤدية إلى موقع الحادث بالأهالي، وجوه شاحبة، عيون دامعة، نساء يلطمن وجوههن، وأطفال يصرخون دون أن يفهموا حجم الفاجعة. كل قرية من القرى المجاورة كان لها ابن أو قريب في ذلك الخزان المظلم، الذي ابتلع الأرواح بلا رحمة.

في المستشفى، حيث تم نقل المصاب الوحيد، وقفت الأمهات والزوجات مترنحات بين الرجاء والخوف، يهمسن بأسماء أحبابهن كل لحظة، ويتشبثن بأي بادرة أمل تخرج من الأطباء. ولكن الكلمات القليلة التي خرجت من الطبيب المناوب كانت كفيلة بكسر كل أمل: “الحالة حرجة جدًا، نسبة النجاة ضعيفة.”

أما في موقع الحادث، فقد بدأت فرق الإنقاذ عملها في انتشال الجثث، وسط إجراءات بطيئة وتوترات شعبية متصاعدة. أحد أقرباء الضحايا صرخ في وجه أحد المسؤولين: “فين أجهزة السلامة؟ فين الكمامات؟ فين أنتم؟!” ولكن السؤال لم يجد إجابة، سوى صمت أكثر مرارة من الحادث نفسه.


المشهد الثالث: من المسؤول؟

في كل كارثة، هناك دائمًا سؤال يتكرر: من المسؤول؟ هل هو المقاول الذي لم يوفّر أدوات الأمان؟ أم الجهة الحكومية التي أوكلت العمل دون متابعة؟ أم النظام الإداري بأكمله الذي يكتفي بردود أفعال بعد فوات الأوان؟

الواقع أن المسؤولية هنا متشابكة، وتتقاطع فيها عدة خطوط. من المؤكد أن هناك خللًا في التدريب والتجهيز، وغيابًا فادحًا للرقابة. فمثل هذه الأعمال لا يمكن تنفيذها دون إشراف هندسي مباشر، ولا يجوز إطلاقًا السماح بدخول خزان صرف بدون معدات تنفس معزولة، أو وجود أنظمة تهوية وسحب للغازات السامة.

كما أن هناك تساهلًا متكررًا في إسناد الأعمال الميدانية إلى مقاولين فرعيين قد لا يلتزمون بالمعايير المهنية. وغالبًا ما تكون العمالة المستخدمة في هذه المشاريع من الفقراء، الذين يرضون بأقل الأجور، ولا يستطيعون المطالبة بحقوقهم خوفًا من فقدان لقمة العيش.

في هذا الحادث، ربما لا يكون هناك “قاتل” مباشر، لكن هناك “إهمال قاتل”، وهو أسوأ وأبشع، لأنه متكرر، ومسكوت عنه.


المشهد الرابع: بين القانون والواقع

القانون المصري، كما هو الحال في معظم الدول، ينص بوضوح على ضرورة توفير شروط السلامة المهنية، وعلى مسؤولية الجهات المشرفة عن حماية العمال. ولكن الواقع شيء، والنصوص شيء آخر.

غالبًا ما تُختزل معايير السلامة في تقارير ورقية، تُوقع دون تنفيذ، ويُكتفى بها لإغلاق الملفات عند الضرورة. أما العامل، فهو في نهاية السلم الإداري، لا صوت له، ولا نقابة تدافع عنه بقوة، ولا إعلام يضيء مأساته إلا بعد أن يصبح خبرًا عاجلًا.

وفي حالات كثيرة، لا تنتهي مثل هذه الحوادث بإجراءات حقيقية. قد يُفتح تحقيق، ويُحرر محضر، وتُوجه اتهامات شكلية، ثم يُغلق الملف تدريجيًا، ويعود كل شيء إلى ما كان عليه. لكن ما لا يعود، هو الأرواح التي فُقدت، والأطفال الذين تيتموا، والزوجات اللواتي تُركن يواجهن الحياة وحيدات.


المشهد الخامس: ما بعد الحادث.. جراح لا تُشفى

في الأيام التالية للحادث، خيم الحزن على الشرقية كلها. أقيمت جنازات مهيبة للضحايا الأربعة، حضرها الآلاف من أهالي القرى المجاورة. كانت صرخات الأمهات تسبق المآتم، وكانت كل جنازة تحمل في طياتها قصة إنسانية مؤلمة.

أحد الضحايا كان قد عقد قرانه قبل أسبوع فقط، وكان يحلم ببناء بيت صغير يؤويه مع عروسه. وآخر كان العائل الوحيد لأمه الطاعنة في السن. وثالث كان يُحضّر لابنه دخول الجامعة. أما الرابع، فكان قد قرر أن يعمل يومين إضافيين ليشتري جهازًا لابنته الكبرى في خطبتها القادمة.

كل واحد من هؤلاء لم يكن مجرد عامل، بل إنسان له أحلام، وأسرة، ومستقبل. ولكن الحادث جعل من هذه الأحلام حكايات تُروى على ألسنة الجيران.

أما المصاب الخامس، فقد نجا بأعجوبة، لكنه لم يعد كما كان. جسده أنهكته الغازات، ونفسيته أثقلها الفقد. صار يكرر في كل لقاء: “يا ريتني كنت أنا.. ما أقدرش أنام وأنا شايفهم بيصرخوا.” جملة واحدة تكفي لفهم حجم الندوب التي لا تندمل.


المشهد السادس: أصوات تطالب بالتغيير

لم يمر الحادث مرور الكرام، فقد أثار موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، ودعا كثيرون إلى فتح تحقيق شفاف، ومحاسبة المسؤولين عن غياب إجراءات السلامة، وتفعيل دور الرقابة، وفرض غرامات صارمة على من يستخف بحياة العمال.

خرجت بعض الأصوات من البرلمان تطالب بمساءلة الجهات التنفيذية، وعقد جلسات عاجلة لمناقشة ملف سلامة بيئة العمل، ولكنها، كالعادة، سرعان ما تلاشت في زحام الأحداث السياسية والاقتصادية اليومية.

المؤسسات الحقوقية دعت إلى تعويض عادل لأسر الضحايا، وإنشاء صندوق دائم لدعم العمال الذين يتعرضون لحوادث العمل، ولكن تنفيذ هذه الدعوات ما زال حبيس الأوراق والمقترحات.


المشهد السابع: دروس لا تُعلَّم

قد يكون الحادث في ذاته مأساة، ولكن الأسوأ هو أن لا يتعلم أحد منه. أن تمر الحادثة وتُنسى، كما نُسيت مئات الحوادث قبلها. أن تستمر الورش والمشروعات دون رقابة، وأن يظل العامل المصري يعمل في بيئة مميتة دون تدريب أو تأمين أو دعم.

هذه ليست أول مأساة في قطاع الصرف الصحي أو أعمال البناء أو التنقيب، ولكن استمرارها يعني أن هناك شيئًا خاطئًا في منظومة العمل، في ثقافة السلامة، في تقديرنا للإنسان، في تعاملنا مع الطبقة العاملة كأرقام وليس كأرواح.


المشهد الأخير: إلى متى؟

تبقى المأساة جرحًا مفتوحًا في جسد الوطن. ويبقى السؤال الأهم معلقًا في الهواء: إلى متى؟ إلى متى نظل نحصد الأرواح نتيجة الإهمال؟ إلى متى نسمح بأن تكون حياة العامل أرخص من المعدات؟ إلى متى نكتفي بالحزن، دون أن نُحدث تغييرًا حقيقيًا؟

لقد فقدت الشرقية أربعة من أبنائها، لكن مصر كلها خسرت أكثر من ذلك. خسرت فيهم صورة الشاب الكادح، العامل الشريف، الحالم بغد أفضل. ولكي لا يتحول الحادث إلى رقم جديد في سجل النسيان، علينا أن نُحوّل هذه الدماء إلى يقظة، وهذه الجنازات إلى بداية إصلاح.

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى