
كتبت / دينا زكريا
في قلب القاهرة القديمة، يتربع صرحٌ شامخ يُعد من أعظم معالم الحضارة الإسلامية، ومركزًا للفكر والدين والعلم منذ أكثر من ألف عام. إنه الجامع الأزهر، أحد أقدم المساجد في العالم الإسلامي، وأشهر جامعة دينية عرفها التاريخ. ومع كل ذكرى لبداية بنائه، تتجدد في الأذهان أسئلة عديدة تتعلق بأهميته ومكانته، لكن يبقى الخلاف الأكبر يدور حول سبب تسميته بـ”الأزهر”. فهل سمي تيمّنًا بفاطمة الزهراء؟ أم أن هناك روايات أخرى تفسر هذه التسمية؟ في هذا المقال، نغوص في أعماق التاريخ لنستعرض لحظة التأسيس، والجدل حول الاسم، والدور الحضاري لهذا المعلم الخالد.
لحظة التأسيس: سياق سياسي وديني
يعود تاريخ بناء الجامع الأزهر إلى عام 359 هـ (970 م)، في فترة كانت مصر تشهد تحولًا جذريًا في نظام الحكم بعد دخول الدولة الفاطمية إليها بقيادة القائد جوهر الصقلي، أحد أبرز القادة العسكريين في عهد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله. وما إن بسط الفاطميون نفوذهم على البلاد، حتى شرعوا في تأسيس مدينة القاهرة، والتي سُميت حينها “المنصورية”، لتكون العاصمة الجديدة لدولتهم.
في خضم هذا التحول السياسي، كان لا بد من بناء رمز ديني يعبر عن هوية الدولة الجديدة، ومذهبها الشيعي الإسماعيلي. وهكذا وُضعت أولى لبنات الجامع الأزهر يوم السبت، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 359 هـ، بأمر من جوهر الصقلي. واستُكمل بناؤه في فترة وجيزة، ليُفتتح رسميًا للصلاة يوم الجمعة السابع من رمضان سنة 361 هـ (972 م).
كان الأزهر منذ البداية أكثر من مجرد مسجد، فقد اختير موقعه بعناية داخل قلب القاهرة، ليكون مركز إشعاع روحي وثقافي. وكانت خطة الفاطميين أن يجعلوا من الأزهر منبرًا لبثّ تعاليم المذهب الشيعي، ومؤسسة تعليمية لنشر الفقه الإسماعيلي، ما جعله يُعرف آنذاك بـ”الجامع الكبير بالقاهرة”.
الاسم واللغز: لماذا “الأزهر”؟
رغم أن الرواية الأكثر شيوعًا تربط بين اسم الأزهر وفاطمة الزهراء، بنت النبي محمد ﷺ، فإن هناك آراءً متعددة حول أصل التسمية. الفاطميون كانوا من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي، ويعتقدون أنهم من نسل فاطمة الزهراء، لذا يُرجَّح أنهم أطلقوا الاسم تيمنًا بها. ووفق هذه الرواية، سُمّي المسجد بـ”الأزهر” نسبة إلى الزهراء، تكريمًا لها وتعبيرًا عن الاعتزاز بالانتماء العلوي.
لكن بعض المؤرخين يشيرون إلى أن اسم “الأزهر” لم يُستخدم فور بناء المسجد، بل ظهر في المصادر التاريخية بعد فترة من الزمن، ما يفتح الباب لتفسيرات أخرى. ومن بين هذه التفسيرات أن كلمة “الأزهر” قد تكون مشتقة من الجذر العربي “زَهَرَ” الذي يدل على الصفاء والنقاء واللمعان، وبالتالي قد يشير الاسم إلى جمال بناء المسجد أو إشراقه في وسط المدينة.
وثمة من يرى أن الاسم جاء من وصف المسجد نفسه، لما كان يتميز به من نقوش وزخارف وأعمدة متناسقة، فكان “أزهر” بمعنى “المضيء أو الباهر”. لكن هذه التفسيرات تظل في إطار الفرضيات، دون وجود دليل قاطع يثبت أحدها، ما يجعل أصل التسمية موضوعًا غنيًا للبحث والنقاش بين المؤرخين.
تطور الجامع عبر العصور
على مر العصور، شهد الجامع الأزهر مراحل متعددة من الترميم والتوسعة، تأثرت جميعها بالتحولات السياسية في مصر. ففي عهد الدولة الأيوبية، ومع تحوّل البلاد إلى المذهب السني، تراجع دور الأزهر كمركز رسمي للتعليم، لكن ذلك لم يمنع استمرار حلقات الدرس داخله. بل إن بعض علماء السنة اتخذوه مقرًا للتدريس، فبدأ يتحول تدريجيًا إلى منبر للعلم بعيدًا عن الانتماء المذهبي الرسمي.
وفي العهد المملوكي، عاد الأزهر إلى الواجهة بقوة، بعد أن لقي دعمًا كبيرًا من السلاطين، الذين عملوا على توسيعه وتجهيزه وتكليف كبار العلماء بالتدريس فيه. كما شهد العصر المملوكي نشوء تقاليد علمية عريقة داخل الأزهر، مثل “التدريس بالحِلَق”، و”الفتوى” و”القراءة على الشيخ”، مما عزز مكانته كمؤسسة تعليمية عابرة للحدود.
أما في العصر العثماني، فقد بلغ الأزهر ذروة تأثيره، وأصبح المركز الأول للتعليم الديني في العالم الإسلامي السني، حيث توافد إليه طلاب العلم من كل أنحاء العالم، من المغرب العربي إلى أواسط آسيا، ومن الحجاز إلى أفريقيا.
الأزهر كجامعة: التعليم والحياة العلمية
بدأ الدور التعليمي للأزهر منذ وقت مبكر، لكنه ترسخ بصورة واضحة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، حين تحول إلى جامعة بالمعنى التقليدي، تقدم علوم الشريعة، واللغة، والمنطق، والفلك، والطب، وغيرها من المعارف. لم تكن الدراسة في الأزهر مرتبطة بسن أو مرحلة تعليمية محددة، بل كانت متاحة لكل من أراد أن يتلقى العلم، وهو ما ساهم في تكوين نُخَبٍ فكرية مؤثرة في مختلف المجتمعات الإسلامية.
اعتمد نظام التعليم في الأزهر على التلقي من الشيخ، والقراءة في الكتب المعتمدة، مع مراعاة المذاهب الفقهية الأربعة، إضافة إلى علوم اللغة مثل النحو والصرف والبلاغة، وعلوم المنطق والكلام والفلسفة، كما كان لعلم الحديث مكانة كبيرة.
وكان للطلاب نظام خاص في الإقامة، حيث خصصت لهم “الرواقات”، وهي حجرات داخل المسجد تمثل بلادهم المختلفة، مثل رواق الشوام، رواق المغاربة، رواق الأتراك، وغيرها، ما يدل على عالمية المؤسسة.
ومن أبرز ما ميّز التعليم الأزهري المرونة، والانفتاح، وقوة العلاقة بين الشيخ والطالب، وهو ما جعل من الأزهر مؤسسة صامدة أمام تقلبات الزمن وتغير الأنظمة.
الأزهر والثورات: دور سياسي واجتماعي
لم يكن الأزهر يومًا مؤسسة دينية فحسب، بل كان في كثير من الأوقات نبض الشعب وضميره الحي. ففي مواجهة الغزاة، كان الأزهر صوت المقاومة. خلال الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، وقف علماء الأزهر في طليعة المواجهة، وقادوا الثورات الشعبية، أبرزها ثورة القاهرة الأولى والثانية. وقد دُفع العديد من علماء الأزهر حياتهم ثمنًا لمواقفهم، وكانوا مثالًا للثبات والشجاعة.
وفي زمن الاحتلال البريطاني، تكرر المشهد ذاته، حيث لعب الأزهر دورًا مهمًا في إذكاء الروح الوطنية، ودعم ثورة 1919، وكان منبرًا للدعوة إلى الاستقلال والوحدة.
كما ساهم الأزهر في الدفاع عن قضايا الأمة، خاصة في القضايا المتعلقة بفلسطين، حيث تبنى مشايخه مواقف واضحة ضد الصهيونية، وكانوا من أوائل من نادوا بضرورة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
الأزهر المعاصر: التجديد والتحديات
في العصر الحديث، وخصوصًا منذ منتصف القرن العشرين، دخل الأزهر مرحلة جديدة من التنظيم والإصلاح، بدءًا من إصدار قانون الأزهر عام 1961 الذي وسّع من نطاق الدراسة فيه لتشمل الكليات العلمية، مثل الطب والهندسة والزراعة، بالإضافة إلى العلوم الشرعية، ليصبح الأزهر بذلك جامعة شاملة تحتفظ بطابعها الديني.
وعلى الرغم من هذه التوسعات، يواجه الأزهر اليوم تحديات كبيرة تتعلق بتجديد الخطاب الديني، ومواكبة تطورات العصر، والرد على الأفكار المتطرفة، والحفاظ على استقلاليته وسط الضغوط السياسية والاجتماعية المتعددة.
ورغم كل هذه التحديات، لا يزال الأزهر يحتفظ بهيبته ومكانته، كمؤسسة مرجعية في العالم الإسلامي، ومنبر للوسطية، والتسامح، والحوار بين الثقافات.
الجامع الأزهر اليوم: معمار وروح
يمثل الجامع الأزهر اليوم لوحة معمارية فريدة، تجمع بين طرازات متعددة تعكس عصورًا متداخلة، من الفاطمي إلى المملوكي، والعثماني، والحديث. ففيه ترى المآذن الثلاث، والقباب الرشيقة، والصحن الواسع، والأروقة القديمة، لتشهد على تعاقب القرون على هذا الصرح.
لكن ما يميز الأزهر حقًا، ليس جدرانه ولا زخارفه، بل الروح التي تسكنه. ففي كل زاوية منه حكاية، وفي كل حجر درس، وفي كل مئذنة نداء. لا عجب أن يلقبه البعض بـ”قلب الإسلام في مصر”، و”جامعة العقول والقلوب”.
الأزهر والتسامح الديني
من أهم ما يُحسب للأزهر عبر تاريخه الطويل، تمسكه بقيم التسامح والحوار، رغم الظروف السياسية المتغيرة، والمذاهب المتعددة. فحتى حين انتقل من المذهب الشيعي إلى السني، لم يكن انتقالًا قائمًا على الإقصاء أو العنف، بل على إعادة تشكيل الوعي الديني بشكل تدريجي.
كما ساهم الأزهر في ترسيخ مبدأ التعايش بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، وشارك علماؤه في مؤتمرات الحوار بين الأديان، وتبادل الرؤى مع المؤسسات الدينية الأخرى، مثل الفاتيكان، والمجلس العالمي للكنائس، وغيرها.
الأزهر في المخيال الشعبي
في الوجدان المصري، يحتل الأزهر مكانة خاصة. فهو ليس مجرد مسجد، ولا جامعة، بل رمز. يراه البسطاء مأوى للعدل والرحمة، ويراه العلماء منارة للعلم، ويراه الساسة ضميرًا لا يُشترى. في الأدب الشعبي، والأمثال، والأغاني، يظهر الأزهر دائمًا في صورة “الملاذ”، و”القلعة”، و”الحِصن”.
حتى لهجتنا اليومية لا تخلو من إشارات للأزهر، سواء في الأقوال التي تصف عالمًا بأنه “أزهري”، بمعنى وقور ومثقف، أو في الإشادة بمن يتكلم بلغة فصيحة بـ”كلام أهل الأزهر”.
ألف عام من الشموخ
بعد أكثر من ألف عام على وضع حجر الأساس، لا يزال الجامع الأزهر شاهدًا على قدرة الأمة الإسلامية على الحفاظ على تراثها، والتجدد في مواجهة الزمن. في كل عام تحل فيه ذكرى بنائه، نتذكر ليس فقط التاريخ المعماري والسياسي والديني، بل أيضًا الإنسان، والعقل، والحضارة التي بُني عليها الأزهر.
ورغم الخلاف على الاسم، سواء أكان نسبة إلى فاطمة الزهراء أم إلى الزهو والجمال، يبقى الجامع الأزهر رمزًا لا يحتاج إلى تعريف، وأيقونة للعلم، والوعي، والكرامة. ومهما تبدّلت العصور، سيبقى الأزهر منارة، لا تغيب عنها شمس.