محافظات بلدنا

المسجد التوفيقى.. تحفة تاريخية شاهدة على المقاومة الشعبية ببورسعيد.. صور

دينا زكريا

وسط مدينة بورسعيد، وعلى مقربة من ضجيج الميناء ونبض الأسواق الشعبية بحي العرب، ينتصب المسجد التوفيقي شامخًا كأحد أقدم المعالم الدينية التي لا تزال تحفظ في طياتها ذاكرة مدينة وُلدت من رحم التحولات الجغرافية والسياسية الكبرى. فهو ليس فقط مسجدًا للصلاة، بل شاهد عيان على مراحل من تاريخ مصر الحديث، وعلى تحولات المدينة التي ارتبط اسمها بقناة السويس، وبالصمود الوطني في وجه العدوان.

ولادة في زمن التحولات الكبرى

يعود بناء المسجد التوفيقي إلى عهد الخديوي توفيق، الذي حكم مصر بين عامي 1879 و1892، وهي فترة اتسمت بالتحولات الجذرية في المجتمع المصري، حيث كانت البلاد تمر بمرحلة دقيقة من التحديث والتوترات السياسية، في ظل تزايد التدخل الأجنبي وظهور الحركات الوطنية. سُمّي المسجد تيمنًا بالخديوي توفيق، الذي ارتبط اسمه بعدد من المشروعات المعمارية والإدارية في مختلف أنحاء مصر.

وقد جاء تشييد المسجد في توقيتٍ كانت فيه مدينة بورسعيد تحوّلت إلى نقطة محورية في حركة التجارة العالمية، مع افتتاح قناة السويس عام 1869. فقد أصبحت المدينة الساحلية الصغيرة، التي بُنيت خصيصًا لخدمة القناة، مركزًا للتنوع السكاني والثقافي، وجاذبةً لجنسيات متعددة. وكان لابدّ من وجود مركز ديني يجمع شتات المسلمين في المدينة، فكان المسجد التوفيقي.

موقع استراتيجي في قلب المدينة

يقع المسجد في قلب حي العرب، أحد أقدم وأشهر الأحياء الشعبية في بورسعيد. ويتمتع بموقع استراتيجي جعله مركزًا دينيًا وروحيًا لسكان المدينة وزوارها، إذ لا يبعد سوى خطوات عن الميناء البحري، ما جعله معلمًا بارزًا للبحارة والتجار والمقيمين. وحي العرب نفسه يُعدّ من أكثر الأحياء التي تحتفظ بالروح البورسعيدية الأصيلة، وهو ما يجعل وجود المسجد التوفيقي فيه علامة على التفاعل بين البنيان والديموغرافيا والتاريخ.

معمارٌ عثماني بنكهة مصرية

يتميز المسجد التوفيقي بطراز معماري فريد يمزج بين الطراز العثماني الكلاسيكي وبعض العناصر الفنية الإسلامية المشرقية. فقبته الرئيسية ترتفع في أناقة وتُزين بأنماط هندسية دقيقة ذات أصول إسلامية خالصة، فيما تبرز مئذنتاه الشاهقتان كعلامتين بارزتين في أفق المدينة، تجتذبان الأنظار من مسافات بعيدة، لا سيما لزوار المدينة القادمين عبر البحر.

ويضم المسجد في داخله صالة صلاة فسيحة، جُهزت بنقوش عربية وآيات قرآنية تزين الجدران والسقف، إلى جانب محراب أنيق ومنبر خشبي مزخرف يُظهر براعة الحرفيين الذين ساهموا في بنائه. كما تتجلى في تفاصيله الدقيقة، روح الفن الإسلامي الذي لا يقتصر على الزخرفة، بل يعكس فلسفة جمالية روحية تتجاوز حدود الشكل لتلامس جوهر المكان.

منبر للعبادة ومسرح للبطولة

لم يكن المسجد التوفيقي يومًا مجرد مكان للصلاة والعبادة، بل لعب أدوارًا تتجاوز ما هو ديني. فقد كان طوال العقود الماضية نقطة التقاء لأبناء بورسعيد، وملاذًا للمؤمنين في أوقات السلم، وملجأً للمدافعين عنها في أوقات الحرب.

وخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حين كانت بورسعيد مسرحًا للمقاومة والصمود، تحوّل المسجد إلى ملاذ للمدنيين والمقاومين على حد سواء. وكانت مآذنه تراقب السماء، وجدرانه تردد الدعاء بالنصر، أما ساحاته فقد امتلأت بالجرحى والمشردين الذين لجأوا إليه بعد أن نالت الحرب من منازلهم. وقد ظل المسجد خلال تلك الفترة رمزًا للمقاومة، وواحدًا من الشواهد الصامتة على تضحيات أهالي المدينة.

مقصد ديني وسياحي

ورغم تغير الزمن، لا يزال المسجد التوفيقي يحتفظ بحيويته. فإلى جانب الصلوات اليومية، تقام فيه شعائر الجمعة والمناسبات الدينية الكبرى، حيث يؤمه المئات من المصلين من مختلف أحياء بورسعيد، بل ومن المحافظات المجاورة. كما أصبح مقصدًا للزائرين المهتمين بالتراث الإسلامي والمعماري، وخاصة أولئك الذين يبحثون عن الوجه الأصيل للمدينة بعيدًا عن صخب الأسواق والميناء.

ويؤدي المسجد دورًا ثقافيًا وروحيًا لا يقل أهمية، حيث تنطلق من داخله الخطب الدينية المعتدلة التي تركز على قيم التسامح والانتماء، في وقتٍ تشتد فيه الحاجة إلى الخطاب الديني الرشيد.

ترميمات تُعيد له الحياة

ومثل أي مبنى عريق، نال الزمن من جدرانه، فتوالت محاولات الترميم للحفاظ على المسجد، أبرزها كان في عام 2018، في إطار مشروع متكامل تقوده وزارة الآثار المصرية، بالتعاون مع الجهات المعنية بحماية التراث المعماري.

وقد شملت أعمال الترميم الحفاظ على الطابع المعماري الأصيل، وترميم النقوش والمآذن والقبة، إضافة إلى تعزيز البنية التحتية للمبنى بما يسمح باستمرار استخدامه دون المساس بعناصره التاريخية. وجاءت هذه الجهود ضمن مشروع وطني واسع لحماية المعالم الإسلامية في المدن الساحلية، وفي مقدمتها بورسعيد، التي طالما كانت في قلب الأحداث التاريخية الكبرى.

بين الماضي والحاضر.. المسجد الحارس لذاكرة المدينة

إن المسجد التوفيقي لا يُعد فقط رمزًا معماريًا أو دينيًا، بل هو حامل لذاكرة المدينة، ومرآة لعراقتها وتنوعها الثقافي والديني. ومن خلال بقائه حيًا وشاهدًا، يُذكّر الأجيال الجديدة بأهمية الحفاظ على التراث لا بوصفه ماضيًا، بل باعتباره جسرًا يمتد من الماضي إلى الحاضر والمستقبل.

وفي زمنٍ تتغير فيه المدن وتتبدل وجوهها، يبقى المسجد التوفيقي علامة ثابتة في بورسعيد، ينادي بالأذان خمس مرات في اليوم، ويهمس في آذان الجميع: “هنا صلّى الأجداد، وهنا تقرّب الأحفاد”.

23747 الجامع التوفيقي ببورسعيد 40681 شمل المسجد الخارجي 49394 المسجد من شارع التلاتيني 52165 اضاءه زخرفيه بالمسجد 59251 المسجد التوفيقي ببورسعيد 1 76805 المسجد من شارع سعد زغلول 80513 المسجد بساعات النهار

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى