حكاية مقابر اللاتين بالإسكندرية.. تحفة فنية لأبناء الجالية اليونانية .. مدفون بها كبار الشعراء والفنانين العاشقين لمصر.. وقبر الملاك النائم الأشهر يروي حكاية فتاة نائمة وبجوارها ملاك يحرسها.. صور

دينا زكريا

في قلب مدينة الإسكندرية، وتحديدًا على طريق الحرية الرئيسي بمنطقة الشاطبي، تقف مقابر اللاتين كواحدة من أروع التحف المعمارية والفنية التي تحكي قصصًا منسية بين جدرانها الرخامية الباردة. تلك المقابر ليست مجرد مدافن، بل هي سجل نابض بتاريخ الجاليات الأوروبية التي استوطنت المدينة لعقود طويلة، ونسجت خيوطًا متشابكة مع الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر.

نشأة المقبرة.. قرار من محمد علي باشا

تعود بداية إنشاء مقابر اللاتين إلى أوائل القرن التاسع عشر، حينما أصدر والي مصر محمد علي باشا قرارًا بتخصيص قطعة أرض في منطقة الشاطبي لدفن أفراد الجالية اليونانية، الذين كانوا يشكلون حينها جزءًا أصيلًا من النسيج المجتمعي المصري. لم تكن المبادرة محض اهتمام بالموتى، بل تجسيدًا لرؤية محمد علي في جعل مصر مركزًا حضاريًا عالميًا يحتضن كل الجنسيات والثقافات.

فن معماري مستوحى من أوروبا

من أول وهلة، تدهشك المقابر بتصميمها الفريد المستوحى من الحضارات الأوروبية واليونانية الكلاسيكية. يتزين المكان بمنحوتات رخامية دقيقة الصنع، وتماثيل ملائكة تنثر الهدوء والجلال على الأرجاء، لتمنح الزائر شعورًا بأن المكان أشبه بمتحف فني مفتوح لا بمقبرة تقليدية.

موطن أبدي لرموز من التاريخ والفن

لم تكن هذه المقابر ملاذًا للأثرياء فقط، بل ضمت في أحضانها شخصيات بارزة أثرت في تاريخ مصر الثقافي والفني والاجتماعي، ومن أبرز من دفنوا بها:

• قسطنطين كفافيس: أحد أعظم شعراء اليونان، وصاحب “رباعيات الإسكندرية” الشهيرة، التي خلد فيها المدينة وعشقها الأبدي لها.

• الخواجة أنطونيادس: الذي قدّم قصره وحديقته كهبة لأبناء المدينة، لتتحول إلى واحدة من أشهر الحدائق العامة بالإسكندرية.

• كوتيستا: مؤسس المستشفى اليوناني، الذي يعرف اليوم باسم مستشفى جمال عبد الناصر، أحد أقدم وأعرق المؤسسات الطبية في المدينة.

• بوتي الإيطالي: أول مدير للمتحف اليوناني الروماني، ذلك الصرح الذي ما زال يشهد على عمق التاريخ السكندري.

• عائلة بهنا: التي أسست أول وأكبر شركة لتوزيع الأفلام السينمائية في الشرق الأوسط، ولعبت دورًا محوريًا في نهضة السينما العربية.

قبر “الملاك النائم”.. قصة عشق أبدي

من بين كل المعالم الفريدة داخل مقابر اللاتين، يظل قبر الملاك النائم الأكثر شهرة وإثارة للمشاعر. يحكي محمد سعيد، الخبير الأثري، أن هذا القبر يخلّد ذكرى فتاة تُدعى “إيريني”، توفيت عن عمر يناهز 19 عامًا، وكان والدها، التاجر الثري “زوفاداكي”، من كبار تجار الأخشاب في المدينة، قد أحبها حبًا جمًا.

دفنها في مقبرة فريدة التصميم، يظهر فيها تمثال فتاة نائمة كأنها ما زالت تحلم، بينما يجلس بجوارها ملاك واضعًا إصبعه على شفتيه، في حركة رمزية تطلب من الزائرين احترام سكونها وعدم إزعاجها. هذه الصورة المؤثرة أصبحت واحدة من أشهر المعالم في المقبرة، بل وتم تصوير عدد من المشاهد السينمائية فيها، مثل فيلم “الاعتراف الأخير” من بطولة الفنانة نيللي والراحل نور الشريف، الذي نال إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء.

المقابر والسياحة الثقافية

ورغم أن المقابر لا تُعد مزارًا سياحيًا تقليديًا، إلا أنها تحولت في السنوات الأخيرة إلى محطة للمهتمين بالعمارة والفن والتاريخ، حيث تجذب الزوار من داخل وخارج مصر ممن يرغبون في استكشاف وجه آخر للإسكندرية، بعيدًا عن البحر والكورنيش، وجه يحمل عبق قرون من التعايش والتسامح والجمال الخالد.