
دينا زكريا
حين تغيب شمس النهار خلف النيل، وتبدأ أنوار المساء في التسلل بهدوء إلى أرجاء مدينة الأقصر، تستعد جدران معبد الأقصر لارتداء حلّتها المسائية المذهلة. في قلب المدينة، وعلى ضفاف كورنيش النيل الساحر، ينبثق المعبد من عتمة الليل كجوهرة فرعونية يحيطها البهاء من كل جانب، متوشحًا بإضاءات خلّابة تسلط الضوء على أسراره التي احتضنتها جدرانه لآلاف السنين.
لم يعد فتح المعابد ليلاً مجرد فكرة لزيادة عدد ساعات الزيارة، بل تحول إلى طقس سياحي يومي يجذب السائحين من كل أنحاء العالم، بحثًا عن لحظة تأمل نادرة في حضرة التاريخ والضوء. تتراقص الظلال على أعمدة المعبد، وتنبض النقوش بالحياة، وكأنها تروي لزائريها حكايات الأمس بلغة الحاضر.
الأقصر.. متحف مفتوح لا ينام
مدينة الأقصر، التي تعتبر من أغنى المدن الأثرية على وجه الأرض، تعيش اليوم نهضة سياحية متميزة، خاصة في قطاع السياحة الثقافية. وبفضل مشروع “الفتح الليلي للمعابد”، الذي تبنته وزارة السياحة والآثار، أضحت ليالي الأقصر لوحة ضوئية متكاملة يتداخل فيها التاريخ مع الحاضر، والروح مع الجسد.
ففي كل ليلة، تتجه أنظار السائحين إلى المعبد الذي يتوسط البر الشرقي، مستمتعين بتجربة لا تُنسى. إنهم لا يزورون مجرد مبنى أثري، بل يدخلون إلى قلب التاريخ المصري القديم، مفعمًا بالإبداع المعماري والديني والسياسي، حيث لكل جدار حكاية، ولكل تمثال رسالة، ولكل عمود صدى.
معبد الأقصر.. معجزة معمارية ورمز سياسي
يشير أحمد عربي، مدير عام معبد الأقصر، في تصريحاته لـ”اليوم السابع”، إلى أن المعبد لم يكن فقط صرحًا دينيًا لتكريم الإله آمون رع، بل كان جزءًا من مشروع سياسي طموح نسجه الملك أمنحتب الثالث بإتقان شديد. ففي زمن لم تكن فيه شرعية الحكم تُمنح إلا لمن يجمع بين الدم الملكي والزواج من إحدى أميرات البيت الفرعوني، كان أمنحتب الثالث يفتقر لكليهما.
لكن بنبوغ مستشاريه، وحنكته السياسية، أدرك أن بإمكانه استخدام الدين كأداة لتثبيت حكمه. وهكذا وُلدت فكرة تشييد معبد عظيم يُكرّس لعبادة آمون رع، الإله الأعلى في ذلك الزمان، ليضفي على ملكه الشرعية الدينية التي يفتقدها. وبالفعل، استطاع أمنحتب أن يقنع النخبة الدينية والسياسية بصدقية نسبه المقدس عبر المعبد، ففتح لنفسه طريقًا إلى العرش، وترك خلفه إرثًا معمارياً يخلد اسمه حتى اليوم.
من أمنحتب إلى رمسيس الثاني.. قصة استكمال الصرح الأعظم
بدأ العمل في معبد الأقصر في الفترة من عام 1390 حتى 1353 قبل الميلاد، خلال حكم الملك أمنحتب الثالث، والذي وضع أساسات المعبد الكبرى، وصمم الهيكل الداخلي الذي يضم صالة الأعمدة وقاعات العبادة. ثم جاء من بعده الملك رمسيس الثاني، أحد أعظم فراعنة مصر، ليضيف لمساته الخالدة على المعبد، وليكمل ذلك الصرح الرهيب بفناء واسع، ومدخل فخم يتقدمه ما يُعرف باسم “البيلون” أو البوابة الضخمة، إلى جانب المسلات والتماثيل التي تخلد انتصاراته العسكرية.
أمام البوابة الرئيسية، يجلس تمثالان ضخمان لرمسيس الثاني، تعلو قسماتهما مسحة من الهيبة والهدوء، وبين قدميه تصطف أربعة تماثيل واقفة كانت قد تحطمت بفعل الزمن، لكن تم ترميم اثنين منها مؤخرًا وإعادتهما إلى موقعهما الأصلي، في واحدة من أعظم إنجازات الترميم في تاريخ المعبد.
وفي قلب هذا المدخل العتيق، ترتفع مسلة رمسيس الثاني، بارتفاع يقارب 24 مترًا (79 قدمًا)، تروي على جوانبها أخبار معركة قادش الشهيرة، وتُظهره في مشاهد ملحمية وهو ينتصر على الأعداء، وسط زخارف مذهلة تظهر تفوق فن النحت والنقش في تلك الحقبة الذهبية من تاريخ مصر القديمة.
المعبد عبر العصور.. من الفراعنة إلى الرومان
لكن المعبد لم يبقَ صامتًا عبر العصور، بل استمر في أداء أدوار مختلفة مع كل حضارة جديدة. ففي أواخر القرن الثالث الميلادي، شيد الرومان قلعة حول المعبد، وجرى تحويل إحدى الحجرات الداخلية خلف صالة أمنحتب الثالث إلى محراب روماني، في تحول مثير يعكس قدرة المعابد المصرية على التكيف مع مختلف العصور والأديان.
ويقول أحمد عربي إن الجدران الأصلية لتلك الحجرة كانت قد طُمست بالجص، ثم رُسمت على الطراز اليوناني الروماني، وفيها نُقشت صور الإمبراطور دقلديانوس (الذي حكم من 284 إلى 305 ميلاديًا) وثلاثة من ولاة عهده. وهو أمر يُظهر كيف أن المعبد ظل مركزًا دينيًا مقدسًا حتى بعد زوال الحضارة الفرعونية، في دليل قاطع على هيبته الروحية ومكانته التاريخية.
مشروع ترميم تماثيل رمسيس الثاني.. ملحمة حديثة
على مدى السنوات الماضية، شهد معبد الأقصر مشروعًا قوميًا ضخمًا لترميم تماثيل رمسيس الثاني، وهو المشروع الذي أذهل العالم بنتائجه. التماثيل التي كانت قد تحطمت وتعرضت لعوامل التعرية عبر العصور، تم تجميعها وترميمها بدقة عالية، باستخدام تقنيات متقدمة تجمع بين الأثرية والرقمية، بإشراف فرق مصرية متخصصة.
عملية الترميم لم تكن فقط مجرد إعادة لأجزاء مكسورة، بل كانت بمثابة استحضار لحضارة بكاملها، تعيد لرمسيس الثاني هيبته الأصلية، وتعيد لمعبد الأقصر وجهه الحقيقي، كما صُمم أول مرة. وقد لاقت هذه الخطوة إشادات واسعة محليًا وعالميًا، واعتُبرت نموذجًا يُحتذى به في مجال الحفاظ على التراث الإنساني.
الإضاءة الليلية.. سحر يبعث الحياة في الأحجار
غير أن كل هذا الجمال، وكل هذه العظمة المعمارية، تأخذ بُعدًا مختلفًا حين تسقط أشعة الضوء المدروسة بعناية على واجهات المعبد ليلًا. تتغير الملامح، وتغدو التماثيل كأنها تخرج من سباتها، وتتحول الأعمدة إلى كائنات تحرس المكان في صمت.
تسلط الإضاءة على النقوش، فتبدو القصص محفورة في الهواء لا على الحجر، وتمنح الزائرين تجربة حسية نادرة. ليست مجرد زيارة، بل هي رحلة داخل أسطورة حية، يرافقها صدى خافت لموسيقى فرعونية قادمة من أعماق الزمن.
إن مشروع إضاءة المعابد في الأقصر ليس فقط عنصر جذب سياحي، بل هو مشروع ثقافي بامتياز، أعاد تقديم المعبد للعالم بلغة الضوء، في تجربة شديدة الجاذبية، تتكامل فيها العناصر المعمارية مع التكنولوجيا الحديثة، لتصنع لوحة نادرة لا تتكرر إلا هنا، في مدينة المئة باب.
من تجربة ليلية إلى ذاكرة خالدة
الزائرون الذين يقصدون المعبد ليلًا لا ينسونه أبدًا. يصطحبون معهم صورًا تخلّد اللحظة، وأحاسيس لا توصف بالكلمات. وقد أصبحت هذه الزيارات الليلية واحدة من أبرز الأنشطة السياحية في المدينة، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد المحلي، ويعزز من مكانة الأقصر كوجهة أولى لمحبي الحضارة الفرعونية في العالم.
وليس من المبالغة القول إن كل سائح يغادر معبد الأقصر ليلاً، يخرج منه بشحنة روحية وجمالية يصعب العثور عليها في أي مكان آخر على وجه الأرض. فالأمر لا يتعلق فقط بالمكان، بل بتلك اللحظة التي تتلاقى فيها العصور، ويُبعث فيها التاريخ من جديد.











