
دينا زكريا
في العلاقات العاطفية، لا تكون الخسارة دائمًا فورية أو صاخبة. أحيانًا تحدث بهدوء بالغ، دون ضجيج أو صراخ، دون وداع رسمي أو إعلان بالانفصال. تنسحب المرأة شيئًا فشيئًا، حين تدرك أن كل ما تمنّته لن يأتي، وأن من أحبّته، لم يُحسن فهمها أو تقديرها.
قصّة امرأةٍ أحبّت بكل إخلاص، وأعطت أكثر مما ينبغي، دون أن تطلب المقابل. لكنها في النهاية… انسحبت.
ظنّ الرجل أن وجودها الدائم هو القاعدة، وأن ركضها نحوه كلما ابتعد هو عادة لن تنكسر. كان يتعامل مع حضورها كأمرٍ مسلّم به، ومع صبرها كدليل على ضعف، لا كقوة كامنة. غاب عنها بلا مبرر، وعاد متى شاء، واعتقد أن حبها لا يعرف حدودًا أو نهاية.
لكن ما لم يدركه، أن ذلك الحب لم يكن أبدياً كما توهّم. كان حيًا ما دام يُسقى بالاحترام والتقدير. وكل مرة خذلها فيها، كان يهدم شيئًا في قلبها. وكل خيبة تتلقاها بصمت، كانت تُشكّل وعيًا جديدًا بكرامتها، وتعيد ترتيب مشاعرها من الداخل.
لم يكن ترددها في المغادرة ضعفًا. بل كانت تمنح الوقت، علّه يدرك، علّه يتغير، علّها لا تضطر إلى الرحيل. كانت تأمل أن يستفيق، أن يلاحظ أن شيئًا ما بداخلها بدأ يتآكل.
في الليالي التي نامت فيها ودمعتها على خدّها، لم تكن تنهزم. كانت تبني طبقة جديدة من المناعة. وفي كل صباح تستيقظ فيه منكسرة، كانت تنهض أكثر صلابة. فالصمت علمها أكثر مما علمتها الكلمات. والخذلان جعلها ترى الحقيقة دون تزييف.
ومع الوقت، بدأت تتغيّر. لم تصرخ في وجهه، لم تفتح أبواب المواجهة. فقط انسحبت من داخله. أصبحت تضحك أقل على نكاته، وتتفاعل ببرود مع كلماته. قلّت أسئلتها، خفّت مبادراتها. حتى رسائلها أصبحت نادرة، ثم انقطعت.
كان ما يحدث أشبه بتصحر عاطفي تدريجي، لم يشعر به إلا حين حلّ الجفاف الكامل. حين التفت ليبحث عنها، لم يجد سوى صدى صمته، وفراغًا كان قد صنعه بإهماله.
حينها فقط أدرك أن ما ظنه ثباتًا… كان صبرًا. وما اعتبره حبًا بلا شروط… كان نضالًا داخليًا قاتلًا من طرفٍ واحد.
المرأة التي كانت تحبه أكثر من نفسها، أصبحت تحب نفسها كما كانت تحبه. ومع هذا الإدراك، تغيّر كل شيء. لم تعد تراه كما كانت، ولم تعد تنتظره كما قبل. لم تعد تبرر له الغياب، ولم تعد ترى فيه مَن يستحق المحاولة.
هي لم تتركه عقابًا، بل إنقاذًا لذاتها. لم تكن في حاجة إلى انتقام أو تصفية حساب. فقط أرادت أن تتنفس دون ألم، أن تعيش بلا خذلان، أن تمنح قلبها فرصة جديدة لا تفتك به.
فالمرأة، حين تدرك أنها تحارب وحدها، تتوقف عن القتال. وحين تفهم أن الحب الحقيقي لا يُفترض أن يُشعرها بالوحدة، تبدأ رحلة العودة إلى نفسها.
القلوب لا تنكسر فجأة. إنها تتهالك رويدًا رويدًا، ثم في لحظة واحدة… تنهار. وذاك الرجل الذي استهان بحبها، لم يفقدها حين غادرت الباب، بل خسرها في اللحظة التي لم يلاحظ فيها أنها بدأت تتغيّر.
في عالم العلاقات، ليست الصرخات هي ما يُنهي القصص، بل الصمت. ليست الخيانة وحدها ما يُميت الحب، بل التجاهل. والمرأة التي تنكسر بصمت، لا تعود كما كانت أبدًا.
فلا تستهِن أبدًا بقلبٍ أحبك بصدق. لأنه حين ينكسر، لا يُصلح.