
دينا زكريا
في قلب الجنوب المصري، وتحديدًا في مدينة أسوان التي تُعرف بـ”عروس المشاتى” و”دُرّة النيل”، تتربع قبة شامخة فوق جبل صخري مطلّ على النيل، تجذب الأنظار من على بُعد، وتفرض هيبتها المعمارية والتاريخية بصمتٍ عميق. إنها قبة الهوا، المعلم الذي لا يمكن تجاهله لأي زائر يمر بكورنيش النيل في أسوان، إذ تبدو كأنها بصمة بارزة في الأفق، كأنها مرآة الماضي تنظر إلى الحاضر من أعلى نقطة في المدينة.
هوية بصرية لمدينة أسوان
من أي مكان تقف فيه على ضفة النيل الشرقية في أسوان، سترى قبة الهوا تتوسط المشهد، تشرف على المدينة بنظرة رصينة، وترسم ملامح تاريخ طويل بين الصخور والرياح. موقعها الجغرافي، على قمة جبل أبو الهوا، يمنحها خصوصية فريدة، حيث يُخيّل لمن يصعد إليها أن المدينة كلها ممتدة تحت قدميه، وكأنه يراقبها من طائرة محلّقة.
هذا الموقع المرتفع جعل من القبة علامة بارزة، ليس فقط على المستوى السياحي، بل التاريخي والديني أيضًا، إذ ترتبط القبة بروايات عدّة، بعضها يقول إنها كانت نقطة حراسة لصد الهجمات القادمة من الغرب، بينما يربطها آخرون باسم أحد أولياء الله الصالحين المعروف باسم الشيخ علي بن الهواء، والذي يقال إن القبة بُنيت تكريمًا له واحتفاءً ببركته.
شهادة معمارية من القرن الهجري الخامس
حول تاريخ هذه القبة وتفاصيلها المعمارية، يوضح الدكتور حسن جبر، مدير المتابعة الفنية لمناطق آثار مصر العليا وعضو اتحاد الأثريين العرب، أن قبة الهوا تُعد نموذجًا فريدًا من العمارة الحربية والدينية في آنٍ واحد. تقع القبة على قمة الجبل الغربي للنيل، مقابل المدينة، وتعلو منطقة دير قبة الهواء ومقابر النبلاء الشهيرة، ما يزيد من زخمها الأثري.
تعددت أسماؤها بين “قبة الشيخ علي بن الهواء”، و”قبة أعالي الهواء”، وأخيرًا “قبة الهوا”، وهو الاسم الذي استقرّ في المراجع الحديثة، وأصبح متداولًا بين سكان أسوان والزوار على السواء.
تصميم هندسي فريد يعلو الصخر
تتميز القبة بتصميم مربع يبلغ طول ضلعه حوالي 6 أمتار و30 سنتيمترًا، ولها ثلاث واجهات رئيسية تحتوي على أبواب تقع في اتجاهات الشمال والجنوب والغرب، بينما تقع القبلة والمحراب في الجهة الشرقية، ويبرز المحراب عن سمت الجدار، مشكلًا عنصرًا جماليًا ومعماريًا مميزًا.
أما من الداخل، فالقبة مربعة الشكل أيضًا، طول ضلعها الداخلي يصل إلى 4.4 متر، ويعلوها قبة نصف كروية ذات مقطع نصف دائري، تُعد من أبرز ملامح البناء الإسلامي التقليدي، وتستند على حنايا ركنية نصف مخروطية تشكل منطقة الانتقال بين الجدران والقبة، ما يعكس دقة المعمار الإسلامي في تلك الحقبة.
وتحتوي القبة على أربعة نوافذ معقودة بعقود نصف دائرية تتوسط كل واجهة، وتسمح بدخول الضوء الطبيعي بطريقة تخلق حالة روحانية مميزة داخل القبة، وكأنها تحافظ على توازن بين الضوء والظل، بين السماء والأرض.
مواد البناء: التراث المتجسّد في الطين والحجر
أما عن المواد المستخدمة في بناء القبة، فيؤكد الدكتور جبر أن المهندسين في ذلك الزمن استخدموا الطوب الأحمر (الآجر) في كل أجزائها، إلى جانب مونة من الطين المخلوط بالحيبة والتبن، وهي من الخلطات المعروفة في العمارة النوبية والصعيدية التقليدية. كما كُسيت القبة بطبقة من الملاط الأبيض، وهو مزيج من الحيبة والجير والطين، مما منحها لونًا ناصعًا كان ينعكس على النيل في ساعات الشروق والغروب.
وما يلفت الانتباه أن القبة بُنيت فوق الجبل مباشرة دون حفر أساسات تقليدية، إذ استندت جدرانها على الصخر الطبيعي الذي يرتفع عن المستوى المحيط به بمقدار 1.6 متر، ما يعكس ذكاء معماريًا فطريًا في استغلال الطبيعة لحماية المبنى.
عناصر معمارية إسلامية نادرة
يشير الدكتور جبر إلى أن قبة الهوا تمثّل نموذجًا فنيًا متكاملًا من العمارة الإسلامية، حيث تضم العقود المدببة في الأبواب، والعقود النصف دائرية في النوافذ، والمحراب ذو الطاقية المدببة في جدار القبلة، والحنايا الركنية التي تعتبر من أبرز عناصر الانتقال بين الحوائط والقبة.
كل هذه العناصر تشير، بحسب الدراسات والمقارنات المعمارية، إلى أن القبة ترجع للفترة ما بين القرن الرابع والخامس الهجري، أي ما يعادل القرون 10-11 ميلاديًا، وهي الفترة التي شهدت تطورًا كبيرًا في فنون العمارة الإسلامية بصعيد مصر.
بين الواقع والسياحة: تجربة لا تُنسى
ورغم القيمة التاريخية والمعمارية للقبة، إلا أن حالتها اليوم تتطلب تدخلًا عاجلًا للترميم والتدعيم، خصوصًا في الأساسات والمداخل والمحراب، حيث بدأت بعض أجزاء الملاط تتساقط، ما يهدد استمرارية هذا المعلم الفريد ما لم تتدخل الجهات المختصة.
إلا أن القبة لم تفقد مكانتها كمقصد سياحي هام، إذ يمكن للزوار الصعود إلى قمة جبل أبو الهوا إما عبر سلالم صخرية نُحتت على الجبل، أو عبر الإبل التي يستأجرها السياح من السكان المحليين غرب أسوان. وهناك، من على قمة الجبل، يمكن للزائر أن يُطل على مدينة أسوان بأكملها، يراها تتلوى بين ضفاف النيل، بمبانيها الملونة ومراكبها الشراعية، في مشهد لا يُضاهى.
أسطورة الصمت والجلال
قبة الهوا ليست مجرد بناء معماري، بل هي سيدة الجبل التي تروي قصص الصمت والجلال، تحرس المدينة من الأعلى، وتذكّر كل من ينظر إليها أن في هذه الأرض منارات لا تنطفئ، ومعالم تبقى رغم تغير العصور.
وإن كان لكل مدينة عنوانًا، فإن قبة الهوا بلا شك هي عنوان أسوان الأعلى والأبقى، تراقب النيل من علٍ، وتحتفظ بسرّها بين طيات الصخر والريح والضوء.





