المرأه

“ثقافة الاستغناء السريع: هل ماتت فضيلة التمسك بالعلاقات؟”

دينا زكريا

لم يكن التمسك بالعلاقات وقت الأزمات رفاهية يومًا ما. بل هو الوجه الحقيقي للحب، الامتحان الفعلي للنوايا، والمِرآة التي تعكس عمق الروابط لا سطحيتها. غير أن المشهد العاطفي المعاصر يبدو مختلفًا تمامًا؛ فكلما اشتدت العواصف، أسرع الناس إلى الرحيل، وكأنّهم في سباق مع الوقت للنجاة بأنفسهم لا بالعلاقة.

لقد أصبحت نبرة الاستغناء السريع نغمة مألوفة في حواراتنا اليومية، يُفاخر بها البعض كما لو كانت مظهرًا من مظاهر “القوة الشخصية” أو “النضج العاطفي”، بينما في حقيقتها قد تكون انعكاسًا لسطحية الشعور، وضحالة الالتزام، وخوف دفين من خوض معارك الإصلاح والتغيير.


من الحب إلى الإعجاب المزاجي: خلل في المنطلقات

ما يُميّز الحب الحقيقي عن الإعجاب المزاجي، هو “الرغبة في البقاء” رغم الانكسارات. حين يمرض أحدنا، لا نُلقي به إلى الشارع بل نبحث له عن دواء. وكذلك العلاقات، حين تتعرض للوعكة، فإن أول ردة فعل ناضجة يجب أن تكون “العناية” لا الهروب.

إلا أن ما نراه اليوم هو عكس ذلك تمامًا؛ أزمة صغيرة، نقاش عابر، أو حتى اختلاف في التوقيتات والرغبات، كفيل بأن يجعل أحد الطرفين يُلقي بكلمة “انفصال” كمن يُلقي التحية، وكأنّها لا تعني شيئًا. وكأن أشهرًا أو سنوات من العِشرة يمكن طيّها ببساطة رسالة إلكترونية أو قرار في منتصف الليل.

هذا التحول يُعزز قناعة مرعبة: لم نعد نُحب بصدق، بل نُعجب لفترة محدودة، ونرحل حين تخبو الدهشة.


البدائل المتاحة… نقمة لا نعمة؟

لا يمكن الحديث عن ثقافة الاستغناء السريع دون الإشارة إلى ظاهرة “البدائل المتاحة”. فقد سَهّلت وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المواعدة، ومنصات الانستغرام والسناب، الوصول السريع إلى أشخاص جُدد، يُعطونك جرعة وقتية من الاهتمام والانبهار، تجعل العلاقة الحالية تبدو “مملة”، أو غير كافية.

هذه الوفرة المضللة أوهمتنا بأن العلاقات كسلعة يمكن استبدالها بسهولة. لم نعد نُقدّر الجهد المبذول في البناء، بل أصبحنا مهووسين بجمال التصميم السريع والعلاقات “القابلة للتحديث”.

ولكن في خضم هذا اللهاث خلف الجديد، ننسى شيئًا بسيطًا: كل علاقة – قديمة كانت أم جديدة – ستصل إلى مفترق الطرق يومًا ما، حيث سيحل الاعتياد محل الدهشة، وحينها فقط يُعرف الحب من الافتتان.


شرف المحاولة: القيمة المفقودة

في الماضي، كانت العلاقات تتعرض لنكسات، وخيبات، وصراعات حادة، لكن كان هناك حرص على الترميم، لا على الهدم. كانت المحاولة شرفًا، وكانت الجملة الأشهر في وجداننا الجمعي: “ما يُبنى بالحب لا يُهدَم بسهولة”.

أما اليوم، فأصبح الترميم يُنظر إليه كعلامة ضعف، بينما الاستغناء بات مرادفًا للقوة. ننسى أن القوي حقًا هو من يصمد، من يمد يده في الظلام ليعيد النور، من يواجه ذاته قبل أن يُدين الآخر.


الخوف من العمق… لماذا نخشى الغوص؟

جزء كبير من هذا السلوك يعود إلى خوف دفين من العمق. الغوص في مشاعر شخص آخر يتطلب شجاعة، وصدقًا، ومواجهة مع الذات. كثيرون اليوم يُفضّلون السباحة على السطح، حيث لا التزام، ولا مسؤولية، ولا احتمال للغرق.

عمق العلاقة يتطلب أن ترى الجانب المظلم من الآخر وتقبل به، أن تواجه ضعفك أمامه وتبقى، أن تُصارحه حين يتألم وتُعينه لا أن تفر. غير أن ثقافة “المثالية الانفعالية” التي روجت لها الشاشات والمنصات، أوهمتنا بأن الحب هو سعادة فقط، هو توافق تام، بلا مشادات، ولا أخطاء.

لكن الحقيقة؟ لا علاقة ناجحة دون جهد، ولا حب بلا لحظات ألم، ولا نُبل بلا تضحية.


من المسؤول؟ الإعلام؟ التكنولوجيا؟ أم نحن؟

من السهل إلقاء اللوم على التكنولوجيا، أو تغيير القيم المجتمعية، أو ضغط الحياة الحديثة. لكن الحقيقة أن القرار يبدأ منّا. نحن من نُغذي ثقافة الرحيل حين لا نحاسب أنفسنا. نحن من نُعمّق نمط “العلاقات الاستهلاكية” حين نُعامل الآخر كمشروع مؤقت لا كاستثمار طويل الأمد.

الإعلام ربما يكون ساهم في نشر صور زائفة عن العلاقات، والتكنولوجيا سهلت الانفصال والنسيان، لكن في النهاية: الاختيار قرار شخصي. المحاولة شرف ذاتي. والرحيل دون جهد هو فشل في المحبة لا في الطرف الآخر.


هل ما زال هناك أمل؟

نعم، ما زال هناك أمل. ما زالت هناك علاقات تصمد، وأشخاص يُقاتلون من أجل أحبّتهم، وقلوب تؤمن بأن الانكسار لا يعني النهاية، بل فرصة لبداية أعمق.

لكن هذه النماذج باتت عملة نادرة، تُكافَح من أجل البقاء في بيئة تحتفي بالاستغناء، وتُصفّق لمن ينسحب لا لمن يُصلح.

في النهاية، الحب الحقيقي لا يُقاس بكمية الرسائل، ولا بكثافة الوجود، بل بقوة “التمسك وقت الخذلان”، وبعظمة “المحاولة قبل الرحيل”.

فهل نحن على استعداد لاستعادة هذه القيمة المفقودة؟ أم سنظل نُصفق لانتصارات الاستغناء، ونُشيّع في كل يوم جنازة علاقة كانت تستحق البقاء؟

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى