
دينا زكريا
في قلب دلتا مصر، وبين الحقول الخضراء الممتدة بغير نهاية، تقع قرية طماي الزهايرة التابعة لمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية. قرية بسيطة الملامح، لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها في الريف المصري، لولا أنها حاضنة لميلاد إحدى أعظم الأصوات التي أنجبتها الثقافة العربية في القرن العشرين: أم كلثوم، أو كما يحب عشاقها تسميتها، كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي.
الجذور الأولى.. من القرآن إلى الطرب
وُلدت أم كلثوم في 31 ديسمبر عام 1898 في منزل طيني صغير بناه والدها الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي، وهو منشد ديني محترم في الموالد والمناسبات الدينية. ومنذ سنوات عمرها الأولى، انخرطت في تعليم ديني صارم، حيث بدأت في حفظ القرآن الكريم على يد أحد الشيوخ بمدينة السنبلاوين، والذي لم يكن مجرد معلم ديني فحسب، بل كان له بالغ الأثر في تكوين أدواتها اللغوية، وإتقانها الفريد لمخارج الحروف والنطق السليم، وهي المهارات التي ظهرت لاحقًا كأحد أبرز أعمدة أدائها الفني.
لم تكن الطفلة الصغيرة تدرك حينها أن هذه البدايات المتواضعة ستصبح لاحقًا نواة لصوتٍ سيجوب الآفاق، ويُلهم الأجيال في المشرق والمغرب. وبرفقة والدها الشيخ إبراهيم، الذي كان يصطحبها معه لإحياء الليالي الدينية، بدأت موهبة أم كلثوم تتفتح على استحياء في ساحات القرى، حيث كان يُطلب منها أداء التواشيح والموشحات مع فرقة والدها، دون أن يعلم أحد أن هذه الطفلة ستُصبح ذات يوم “الست” التي يتوقف معها الزمان وتخشع لها الآذان.
المنزل الذي شهد البدايات
عاشت أم كلثوم في منزل والدها بطماي الزهايرة لمدة 15 عامًا، حيث تشكّلت ملامح شخصيتها الفنية والإنسانية. وما زال هذا المنزل، حتى يومنا هذا، شاهدًا صامتًا على ميلاد الأسطورة. جدرانه التي تشبعت بأصوات الابتهالات والتواشيح، لا تزال تقف – رغم ما طرأ عليها من الزمن – كمرجع ثقافي وتاريخي لكل زائر يريد أن يتلمس أولى خيوط الحكاية.
المنزل أصبح محط أنظار الزوار من داخل مصر وخارجها، فمحبو كوكب الشرق من شتى بقاع العالم يأتون خصيصًا لزيارة القرية التي أنجبت صوتًا قلّما يتكرر. هناك، في طماي الزهايرة، لا تزال الحياة تحتفظ ببعض من بساطتها الأولى، ولكنها أيضًا تفيض بالفخر والانتماء لسيدة رفعت اسم القرية إلى آفاق بعيدة.
الانتقال إلى العاصمة.. بداية المجد
في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، انتقلت أم كلثوم برفقة عائلتها إلى القاهرة، حيث بدأت رحلتها الحقيقية مع المجد. هناك، وسط العاصمة النابضة بالحياة والثقافة، تعرفت على نخبة من رواد الفن والشعر والموسيقى، أمثال أحمد رامي، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب لاحقًا. بدأت تتشكل مدرسة أم كلثوم الخاصة في الغناء، مدرسة امتزج فيها العمق الشعري بالتمكن اللحني والصفاء الصوتي.
لكن رغم شهرتها الطاغية في العاصمة، لم تقطع أم كلثوم يومًا صلتها بجذورها. كانت تتردد من حين لآخر على قريتها، تزور أهلها وتجلس بين أحبائها، وتسترجع أيام الطفولة والبدايات، وكأنها تعيد شحن روحها من معين الطفولة والصدق والبساطة.
متحف كوكب الشرق.. الوفاء للتاريخ
ولأن مصر لا تنسى عظماءها، صدر قرار جمهوري من الرئيس عبد الفتاح السيسي بتحويل منزل أم كلثوم بطماي الزهايرة إلى متحف يضم مقتنياتها، ويُخلد سيرتها ومسيرتها الفنية. المتحف سيكون بمثابة صرح ثقافي وتاريخي يفتح أبوابه للعالم، ليشهد على رحلة استثنائية بدأت من بيت بسيط في ريف مصر، وانتهت إلى قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج.
يتوقع أن يضم المتحف عددًا من مقتنيات سيدة الغناء العربي، من ملابسها، ونظاراتها الشهيرة، وحتى مكاتباتها ورسائلها مع كبار الشعراء والموسيقيين، فضلًا عن توثيق بصري وسمعي لمسيرتها الفنية التي استمرت لعقود، وقدّمت خلالها عشرات الأغاني الخالدة التي أصبحت جزءًا من وجدان الأمة العربية.
أم كلثوم.. إرث لا يُنسى
لم تكن أم كلثوم مجرد مغنية، بل كانت رمزًا ثقافيًا ومجتمعيًا تجاوز حدود الفن. في صوتها كان هناك وطن، وفي كلمات أغانيها نبض شعبي ووجداني عميق. لم تشارك فقط في تشكيل الذائقة الموسيقية، بل ساهمت أيضًا في بناء الهوية الثقافية لمصر والعالم العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث أصبحت رمزًا للكرامة الفنية والاستقلالية.
وإلى اليوم، تظل طماي الزهايرة ليست مجرد قرية، بل مزارًا يحمل عبق الزمن الجميل، ورمزًا حيًا لقدرة الموهبة الأصيلة على شق طريقها مهما كانت البدايات متواضعة.