المرأه

“الكلمة أمانة.. عندما تتحول الوعود إلى خناجر في الظهر”

دينا زكريا

في زمن كثرت فيه الكلمات وتبخّرت فيه الأفعال، باتت الثقة سلعة نادرة، وأصبحت الوعود أقرب إلى سُحب خفيفة تمر سريعًا دون أن تُمطر واقعًا أو وفاءً. وبين كلمات تُقال دون نيةٍ للتنفيذ، ووعود تُوزّع بسخاء وتُسحب في صمت، يقف الكثير من الناس على أطلال مشاعرهم، يتأملون “كلمة” قيلت في لحظة دفء ثم اختفت في زحمة التهرب والإنكار.

R 6

“أنا جنبك دايمًا”.. عبارة للاستهلاك اللحظي؟

كم مرة سمعنا من أحدهم تلك الجملة الساحرة: “أنا جنبك دايمًا” G، لنكتشف بعد أول اختبار حقيقي أن ذلك “الجنْب” مجرد خيال صوتي؟ يختفي عند أول أزمة، يغيب وقت الحاجة، أو يتحجج بأننا فهمناه خطأ. الأسوأ من ذلك، أن البعض يمتلك موهبة الإنكار البارع، وكأن ذاكرته مزوّدة بزرّ “Reset” يُمسَح به كل ما قاله سابقًا، فينكر كلماته بمنتهى البرود: “أنا ما قلتش كده” أو “أنت فهمتني غلط”.

هذه الظاهرة، وإن بدت بسيطة أو مكررة، تحمل بين طياتها أثرًا نفسيًا عميقًا على الضحايا الذين يأخذون الكلمات على محمل الجد، ويتكئون على وعدٍ قيل في لحظة صفاء. فالخذلان لا يأتي من الموقف فقط، بل من الثقة التي زُرعت ثم انتُزعت، ومن الأمل الذي بُني ثم تهدّم على حين غرة.

عندما تتحوّل الكلمات إلى أدوات تلاعب

بعض الناس يتقنون فنّ “التهرب بالكلمات”، يستخدمون الجمل المريحة للطرف الآخر دون أدنى التزام داخلي. يقولون “هساعدك”، “هكون موجود”، “ماتقلقش أنا فاهمك”، دون نية حقيقية للوقوف في وقت الضيق. هؤلاء لا يفهمون أن الكلمة ليست مجرد صوت، بل التزام، وأن الجملة قد ترفع شخصًا محطمًا أو تُسقط آخر واقفًا على الحافة.

الخطورة لا تكمن فقط في الكذب أو التراجع، بل في الأثر التراكمي على من يتلقى هذا السلوك. فمن يُخذل مرة قد يتألم، لكن من يُخذل مرارًا يُصاب بانكسار داخلي، يُعيد حساباته مع الجميع، ويبدأ في الشك في كل كلمة تُقال له بعد ذلك.

اللسان الناعم.. والقلب البارد

من المؤسف أن بعضهم لا يشعر بالذنب حين يُسحب كلامه وكأنه لم يُقال. وحين يُواجه، يتحوّل إلى طرف هجومي: “أنت حساس أوي”، “إنت مكبر الموضوع”، “متفكرش كده”. كل ذلك في محاولة لتبرير التهرب، أو التقليل من شأن الألم الذي سبّبوه للآخر.

وهنا تظهر الأزمة الأخلاقية: هل أصبحنا نقول فقط ما يُرضي الآخرين مؤقتًا؟ هل فقدت الكلمات معناها الحقيقي؟ أم أن الصدق لم يعُد شرطًا في تعاملاتنا اليومية؟

الاحتياط واجب.. والذاكرة الإلكترونية لا تكذب

في عالم يزدهر فيه التلاعب اللفظي، بات تسجيل المكالمات – أو توثيق الحديث بأي وسيلة – ضرورة للبعض، لا من أجل الفضح أو الانتقام، بل لحماية النفس من التلاعب. أن تسمع أحدهم يتراجع عن وعده، ثم تُشغّل له تسجيلاً بصوته، ربما يُعيده إلى رشده، أو يُشعره للحظة بالمسؤولية تجاه كلماته.

لكن الأهم من التسجيل الأرضي، هو أن “المكالمة مسجلة عند الله”. فالإنكار هنا لا ينفع، والذاكرة السماوية لا تمحى، وستأتي لحظة يُحاسب فيها الإنسان على كل حرفٍ خرج من فمه ولم يكن على قدره.

الختام: لا تتحدث إن لم تكن تنوي الوفاء

من الحكمة أن نُقلل من الوعود، لا لأننا لا نملك النية الحسنة، بل لأننا لا نعلم ما تخبئه الظروف. لكن الأمانة تفرض علينا أن نكون صادقين، واضحين، وأن نُفرّق بين المجاملة، والوعد، والاتفاق.

ففي نهاية المطاف، الكلمة التي لا تُنفَّذ لا تسقط فقط في سلة المهملات، بل تسقط معها الثقة، والمكانة، والاحترام.

وإن كان لا بد من وصية، فهي:
“من لم يكن على قدر كلمته.. فليصمت، فالسكوت أرحم من الأمل الكاذب”.

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى