أخبار عربية

لبيك اللهم لبيك.. دعاء يوم عرفة

في التاسع من شهر ذي الحجة، يتكرر المشهد السنوي الفريد الذي تهفو إليه قلوب المسلمين منذ آلاف السنين، حيث يتجه ملايين الحجاج إلى صعيد عرفات، استجابة لنداء أبدي بدأ منذ زمن إبراهيم عليه السلام: وأذِّن في الناس بالحج. وبينما تتداخل الألسنة، وتتباين الجنسيات، وتتعدد الحكايات، تذوب كل الفوارق تحت مظلة الإحرام، ليغدو الجميع كأنهم جسد واحد، متجه نحو غاية واحدة: طلب الرحمة والغفران.

مشهد لا يشبه سواه

منذ ساعات الفجر الأولى، بدأت الحشود بالتوافد على عرفات. بدا المكان من بعيد كأنه محيط ناصع البياض، تكسوه الإحرامات التي ارتداها الرجال، وتتناثر فيه النساء في خيام منظمة، كل منهم يحمل في عينيه شوقًا ودمعة، وفي قلبه أمنية وربما حسرة عمر. خطواتهم متثاقلة من عناء السفر، لكنها مفعمة باليقين والرجاء.

وفي هذه الساعات القليلة، تكتمل أركان الحج وتبلغ القلوب ذروتها الروحية. لا صخب هنا ولا جدال، فقط دعاء يتصاعد من أفواه المتضرعين، ودموع تسيل بصمت، وتكبيرات تتردد في السماء فتزيد المشهد جلالًا وهيبة.

“انتظرت أربعين عامًا لأصل إلى هنا”

في ركن هادئ قرب جبل الرحمة، جلست امرأة سبعينية على قطعة قماش بسيطة، تمسك بمصحف صغير قديم، تبدو صفحاته وكأنها شهدت دهورًا من المرافقة اليومية. دموعها لم تنقطع، وحين سألناها عن شعورها، همست: “انتظرت أربعين عامًا لأكون هنا… واليوم أشعر أني وُلدت من جديد”. كلماتها كانت كافية لتجسد المعنى العميق لهذا اليوم في نفوس من طال شوقهم إليه.

لوحة إنسانية من البذل والتفاني

ليس الحجاج وحدهم من يصنعون المشهد، بل هناك أيضًا من وهبوا وقتهم وجهدهم في خدمة هذه الحشود. على أطراف الصعيد، وقف شاب في الخامسة والعشرين من عمره يوزع المياه والتمور على المارة بابتسامة راضية. سألناه عن دافعه، فأجاب: “ما أفعله لا يُقارن بما يفعله هؤلاء. خدمتهم شرف عظيم لا أطمح لأكثر منه”.

الأطباء هم الآخرون مرابطون في خيام متنقلة، يسعفون الحالات الطارئة ويطمئنون على كبار السن. أحد الأطباء المشاركين في بعثة الإغاثة قال: “رأينا عجائز يعانون من أمراض مزمنة، لكنهم أصروا على الوقوف في عرفة. الإيمان يمنحهم قوة تتجاوز إمكانيات الجسد”.

عرفة.. مشاعر تتجاوز حدود الزمان والمكان

جبل الرحمة، تلك الصخرة الرمزية التي يتسابق الحجاج للاقتراب منها، يصبح نقطة التقاء بين الأرض والسماء. حوله، ترتفع الأكف وتعلو الأصوات بالدعاء. المشهد بأسره يُشبه لوحة عالمية، لا تحدّها لغة ولا يقيّدها وطن.

إنها لحظة الوقفة الكبرى، حين يتوقف الزمن في عرفات، وتتوحد الدعوات تحت مظلة واحدة. يختار البعض العزلة الكاملة، يبتعدون عن الزحام، ويجلسون في تأمل خاشع، كأنهم يودعون الدنيا للحظات قليلة. على الجهة المقابلة، يتبادل بعض الحجاج التمر والماء والكلمات الطيبة، وكأنهم يعرفون بعضهم منذ الأزل.

وداع عرفة.. دمعة على كتف الرحمة

ومع اقتراب غروب الشمس، تبدأ القلوب بالتحرك قبل الأقدام. تبدأ أفواج الحجيج بالنفير إلى مزدلفة، لكن الوجوه تلتفت إلى الوراء، كأنها تأبى مفارقة هذا المكان. أحد الحجاج اليمنيين قال لنا والدمعة تلمع في عينيه: “لو خُيّرت بين كنوز الأرض وهذه اللحظة، لاخترت عرفة دون تردد”.

خاتمة روحية لا تُنسى

يوم عرفة ليس مجرد طقس ديني ضمن شعائر الحج، بل هو قمة روحية وموسم إنساني يعيد ترتيب الأولويات في النفس. فيه تُختصر معاني التوبة، ويُجدد العهد بين العبد وربه، وتُولد القلوب من جديد على أمل أن تُكتب في سجل العتق من النار.

إنه المكان الذي يختزن في لحظاته ما لا يُقال، ويمنح الزائرين شعورًا بأن السماء أقرب، وأن الأرض أكثر نقاءً، وأن الإنسان، حين يتجرد من الدنيا، يصبح أصدق ما يكون.

85496 الحجاج على جبل عرفات 2

100244 الحجاج على جبل عرفات 1 1 118587 الحجاج على جبل عرفات 4 124000 الحجاج على جبل عرفات 3

Dina Z. Isaac

كاتبة محتوى متخصصة في إعداد المقالات الإخبارية والتحليلية لمواقع إلكترونية ومدونات متعددة. أمتلك خبرة تتجاوز أربع سنوات في مجال الكتابة والتدوين، حيث أحرص على تقديم محتوى مميز يجمع بين الإبداع والدقة، مع التركيز على جذب القارئ وتقديم المعلومات بشكل سلس وواضح. المهارات والخبرات: كتابة المقالات الإخبارية: إعداد تقارير وتحليلات شاملة تغطي أحدث الأخبار المحلية والعالمية. التدوين: كتابة مقالات متنوعة تغطي مجالات مثل التكنولوجيا، الصحة، التنمية الشخصية، وريادة الأعمال. تحسين محركات البحث (SEO): صياغة محتوى متوافق مع معايير السيو لتحسين ظهور المقالات في نتائج البحث. إدارة المحتوى: التخطيط للنشر، وإعداد جداول تحريرية، وتنظيم الحملات الرقمية. التدقيق اللغوي: ضمان خلو النصوص من الأخطاء اللغوية والنحوية لتقديم محتوى عالي الجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى