
دينا زكريا
في زاوية مظلمة من معابد الكرنك الشهيرة وسط مدينة الأقصر، يقبع تمثال فريد من نوعه لإحدى أعنف وأقوى رموز الميثولوجيا المصرية القديمة. إنه تمثال المعبودة “سخمت”، اللبؤة ذات الجسد الأنثوي النحيل، والرأس المتوّج بقرص الشمس، التي لطالما ارتبطت في أذهان المصريين القدماء بالحرب والدمار، وفي الوقت ذاته، بالشفاء والرحمة. تمثال نادر يقف شامخًا داخل غرفة مصممة خصيصًا له، حيث يخترق ضوء الشمس سقفها ليلقي شعاعًا مهيبًا على وجه الإلهة القوية، في مشهد يثير الرهبة والانبهار لدى الزائرين.
“سخمت”.. وجه العدوان وجسد الإلهة
يقول صلاح الماسخ، أحد مديري معابد الكرنك، إن اسم “سخمت” يعني في اللغة المصرية القديمة “هي التي تكون قوية”، وقد كانت تجسد الجانب العدواني والهجومي من الإلهات الأسطوريات في المعتقد الديني الفرعوني. تحمل سخمت جسد امرأة ورأس لبؤة، وهي قرينة للإله “بتاح” وأيضًا ابنة للإله “رع”، الإله الشمسي العظيم.
لكن الأهم من ذلك، أن سخمت مثلت منذ الدولة الحديثة (1550 – 1069 قبل الميلاد) القوة النارية للشمس، وجسدت إلهة الحرب والمرض، بل وعُرفت كذلك بقدرتها على الشفاء، ما يجعل منها ثنائية فريدة تجمع بين القسوة والرحمة. وبمرور الزمن، أصبحت تماثيل سخمت عنصرًا مميزًا في المعابد الكبرى، خاصة في عهد الملك أمنحتب الثالث (1390 – 1352 قبل الميلاد)، الذي أمر بصناعة المئات من التماثيل تكريمًا لها في معبد “موت” بالكرنك، وفي معبده الجنائزي بالبر الغربي بالأقصر.
أساطير الرعب: سخمت والقرى المظلمة
يروي الماسخ أن تمثال سخمت المتواجد حاليًا داخل معابد الكرنك يثير مشاعر الرهبة، ليس فقط بسبب ملامحه الحادة وهيئته اللبؤية، بل أيضًا بسبب الأساطير المرتبطة به، والتي تناقلها الأجداد عبر قرون. من بين تلك الأساطير ما يُقال عن حادثة مأساوية ارتبطت بمقتل سبعة أطفال في كهف غامض، يُعتقد أن لعنته تعود لسخمت. وكان يُقال إنها كانت تخرج في الليالي القمرية لتبتلع الأطفال الصغار من القرى، وهو ما دفع السكان آنذاك إلى مهاجمتها بالعصي والأحجار، في طقوس رمزية هدفها الحماية من بطشها الأسطوري.
ويضيف الماسخ أن سخمت كانت تُصور أيضًا بوجه آخر هو الإلهة “باستيت”، القطة الرقيقة التي تمثل الجوانب الرحيمة والأنثوية، وتُعبد في معبدها الشهير بمنطقة تل البُسطا بالزقازيق في محافظة الشرقية، حيث كان يُقام عيدها السنوي الذي يجتمع فيه أكثر من 7000 رجل وامرأة، باستثناء الأطفال!
الكشف الأثري: تمثال من الجرانيت الأشهب يظهر للنور
يؤكد الطيب غريب، الخبير الأثري، أن التمثال المميز لسخمت والمتواجد في معبد الكرنك تم اكتشافه عام 2013 داخل معبد الإلهة “موت”، جنوبي الكرنك، بواسطة بعثة معهد البحوث الأمريكية بالتعاون مع وزارة الآثار المصرية، وذلك خلال أعمال ترميم شاملة للصالة الثانية من المعبد. ويعود التمثال لعصر الملك أمنحتب الثالث، حيث تم نحته من الجرانيت الأشهب، ويبلغ طوله 180 سم، ويظهر رأس لبؤة وجسد بشري، وعلى رأسه قرص الشمس والكوبرا الملكية. تمسك سخمت في يدها اليمنى علامة الحياة “عنخ”، وفي يدها اليسرى زهرة اللوتس، رمز النقاء والتجدد.
ويشير غريب إلى أن هذا التمثال يُعد الأول من نوعه الذي يُكتشف واقفًا داخل معبد “موت”، إذ اعتادت التماثيل المكتشفة سابقًا أن تكون في وضع الجلوس. ويُبرز هذا التمثال بشكل لافت ارتباط سخمت بالإلهة “موت”، زوجة الإله “آمون رع”، ما يعكس التعقيد اللاهوتي في المعتقدات الدينية القديمة.
البعثة الألمانية: اكتشافات ضخمة في باطن الأرض
ولم تقتصر اكتشافات تماثيل سخمت على الكرنك فقط. ففي البر الغربي بالأقصر، وتحديدًا في منطقة “كوم الحيتان”، تمكنت البعثة الأثرية الألمانية ضمن أعمال ترميم تمثالي “ممنون” ومعبد الملك أمنحتب الثالث، من انتشال أكثر من 27 تمثالًا لسخمت خلال موسم تنقيب واحد. ومع نهاية عام 2017، بلغ عدد التماثيل المكتشفة لهذه الإلهة القوية نحو 429 تمثالًا، جميعها مصنوعة من الجرانيت الأسود، وتم نقلها إلى مخازن وزارة الآثار لتأمينها وترميمها.
ومن بين هذه الاكتشافات تمثال ضخم وُصف بأنه “أبو الهول” لسخمت، نسبة لضخامة حجمه وفرادته، وقد خضع التمثال لعمليات دقيقة من الحماية والتدعيم والترميم لتثبيت ألوانه وتفاصيله والحفاظ عليه من عوامل التآكل.
سخمت في عيون الحاضر: رمز للقوة والأسطورة
رغم مرور آلاف السنين، لا تزال “سخمت” تحتفظ بمكانتها في وجدان الحضارة المصرية، ليس فقط كرمز ديني قديم، بل ككيان يُعبّر عن الجانب القاسي والشرس للحياة، وعن قدرة الإنسان على تحويل المخاوف إلى رموز مقدسة. وتبقى تماثيلها المنتشرة بين الكرنك والبر الغربي شاهدًا على حضارة عظيمة نسجت الأساطير وربطت بين الكون والإنسان في سرديات معقدة ومبهرة.
وبين الغرفة المظلمة التي تحتضن تمثال سخمت في معابد الكرنك، وتماثيلها الدفينة تحت رمال الأقصر، تبقى هذه الإلهة اللبؤة شاهدة على مجدٍ لم تنطفئ جذوته، ورمزًا لدهاء الإنسان القديم في صناعة الرموز التي لا تموت.






